اقرأ معنا

“أبي الذي أكره” د. عماد رشاد عثمان

أبي الذي أكره

هناك كتب لا تُقرأ فقط… بل تُشعرنا أننا نقرأ أنفسنا. وكتاب «أبي الذي أكره» هو واحد من تلك الكتب النادرة التي تُنزل القناع عن الوجدان الإنساني، وتضع الأصبع على جرح قديم يتعايش معه الكثيرون بصمت.
هذا الكتاب ليس تمرّدًا على الأب، ولا تحريضًا على كراهيته، بل هو محاولة علاجية لإعادة تعريف كلمة “أب” من منظور نفسي وطفولي وعاطفي.

ومنذ الصفحة الأولى، يشعر القارئ بأن الكاتب يفتح بابًا طالما أُغلق داخل آلاف البيوت: باب الألم الأبوي، الصدمات، الغياب، القسوة، التجاهل، وحتى الأب الذي يوجَد جسدًا لكنه غائب روحًا.

أسلوب عماد رشاد يجمع بين دقة الطبيب النفسي، ودفء الإنسان، ووضوح المعالج.
والكتاب كله محاولة لإزالة القدسية عن الألم، لا عن الأب.


الفكرة الجوهرية

العنوان صادم عمدًا. الكاتب يعرف أن كلمة “أكره” ستُحدث جلبة، لكنه أراد أن يكسر حاجز الخوف من الاعتراف.
ليس كرهًا بمعناه العدائي، بل كرهٌ مُترجم من إحباط، خذلان، خوف، صدمات طفولة.

الكره الذي يقصده الكاتب هو كره السلوك، لا الشخص… كره الألم الذي سببه الأب، لا الأب ذاته.

يكتب في أحد المقاطع:

«الكراهية ليست نقيض الحب، بل هي وجهه الآخر حين يُجرَح الطفل ولا يجد طريقة للتعبير إلا بأن يرفض من جرحه.»

هنا يظهر جوهر الكتاب: منح الطفل في داخلنا صوتًا.


الأب من منظور الطفل

الطفل لا يرى الأب كما يراه البالغ.
الطفل يرى الأب ككون كامل: مصدر أمان، حب، قوة.
وحين تنكسر صورة الأب أمام الطفل، لا ينسى ذلك بسهولة.

يكتب:

«لا ينسى الطفل صراخ أبيه، ولا نظرة القسوة في لحظة خوف… تلك اللحظة تبقى إلى الأبد.»

هذا المحور هو الأعنف وجدانيًا في الكتاب.
لأن عماد رشاد يشرح أن جراح الطفولة لا تزول بتقدّم العمر… بل تتحول إلى طبقات من الدفاعات، الحساسية، الخوف، العلاقات غير المستقرة.

الكتاب يدعونا لنسأل أنفسنا:
هل جُرح الطفل بداخلي؟
هل حملتُ إلى شبابي خوفًا لم أواجهه؟
هل أنا نسخة مما صنعه أبي فيّ؟


صورة الأب العربي

أهم نقطة يناقشها الكاتب: قداسة الأب في الثقافة العربية.

الأب لا يُخطئ.
لا يُراجع.
لا يُحاسب.
لا يحتاج ليعتذر.

هذه المثالية تجعل الأبناء يلومون أنفسهم بدل مواجهة الحقيقة.

يقول:

«نُربَّى على أن الأب دائمًا على صواب… حتى لو كان خطؤه يفتت قلوبنا.»

هنا يتضح هدف الكتاب: ليس هدم صورة الأب، بل تحرير الأب نفسه من المثالية القاتلة.
فالأب كائن بشري… يتعب، يغضب، يخطئ، ينهزم، ويؤذي، أحيانًا دون قصد.


الصدمات العاطفية

يتحدث الكتاب عن أنواع مختلفة من الآباء:

  • الأب الغائب
  • الأب المتسلّط
  • الأب العنيف
  • الأب الصامت
  • الأب الذي يحب لكن لا يعرف كيف يُظهر الحب

وكل نوع منهم يخلّف أثرًا نفسيًا مختلفًا لدى الأبناء.

يكتب:

«أسوأ أنواع الألم هو ذاك الذي يأتي ممن نظن أنهم يحبوننا، فلا نجد مبررًا لخذلانهم.»

الصمت الأبوي وحده قادر أن يخلق أبناءً يعانون من:

  • التعلق المرضي
  • الخوف من الهجر
  • العلاقات غير الآمنة
  • جلد الذات
  • البحث المستمر عن رضا الآخر

والكتاب يحاول إزالة الغبار عن هذه الحقائق، ليقول للقارئ: أنت لست وحدك.

أبي الذي أكره

المصالحة

برغم عنوانه الصادم، إلا أن هذا العمل يسعى إلى المصالحة.
مصالحة مع الأب، أو مع الألم، أو مع الطفل الذي لم يجد حماية كافية.

يكتب:

«المصالحة ليست تبرئة… هي فقط قبول أن الماضي حدث، وأن لنا الحق أن نعيش حاضرًا جديدًا.»

ويركّز على فكرة مهمة:

«ليس مطلوبًا أن تحب أباك كما يريد المجتمع… يكفي أن تفهمه، وتفهم نفسك.»

الهدف ليس إشعال كراهية، بل إغلاق جرح.


الجانب العلاجي

هذا ما يُميّز أسلوب عماد رشاد: الجانب النفسي العميق.
الكتاب يقدم أدوات لفهم الذات، مثل:

  • تتبع جذور الألم
  • فهم ردود الفعل المبالغ بها
  • فكّ ارتباط الماضي بالحاضر
  • ممارسة التعاطف مع الطفل الداخلي
  • السماح للنفس بالاعتراف بالخذلان

ويكتب:

«الاعتراف بالجرح ليس عقوقًا… بل شفاء.»

الكثيرون سيجدون في هذا الكتاب مرآة صادقة، وفي الوقت نفسه يتيح لهم مجال الخروج من اللوم إلى الفهم، ومن الغضب إلى الوعي.


أسلوب الكتاب

لغة عماد رشاد مباشرة، لكنها مُفعمة بالإنسانية.
يمزج بين:

  • القصص
  • التحليل النفسي
  • الأمثلة من العيادات
  • التجارب الواقعية
  • البعد الإنساني العام

أسلوبه يجعلك تشعرين وكأنك تجلسين معه في جلسة علاج، لا تقرئين كتابًا.

يقول:

«أحيانًا نحتاج إلى يد تربّت على أكتافنا أكثر مما نحتاج إلى نصيحة.»

وهذه الروح الحنونة هي جزء كبير من نجاح الكتاب.

اقرأ أيضا : أحببت وغدًا .. ونجوت


اقتباسات

  1. «الكراهية ليست نقيض الحب، بل هي حبه المجروح.»
  2. «الطفل لا يفهم قسوة الأب… لكنه يتذكرها إلى الأبد.»
  3. «أبي… لو كنتَ أقل قوة لكنتَ أقرب.»
  4. «لا تطلبوا منا أن نقدّس من آلمنا.»
  5. «نحن أبناء الصمت الأبوي.»
  6. «لم أكرهك يا أبي… أنا فقط كرهتُ ما فعلته بي دون أن تنتبه.»
  7. «الجرح الأبوي لا يشفى بالنسيان، بل بالفهم.»
  8. «كبرتُ… لكن الطفل الذي بداخلي ما زال ينتظر اعتذارك.»
  9. «لا تضعوا فوق رؤوس الآباء هالات، فالهالة تمنعهم من رؤية دموعنا.»
  10. «من حقي أن أشعر… حتى لو لم يعجب هذا شعوركم تجاه أبي.»

هناك لحظات كثيرة أثناء قراءة «أبي الذي أكره» يشعر فيها القارئ بأن الكاتب يمدّ خيطًا بين الماضي والحاضر، خيطًا رفيعًا لكنه مشدود لدرجة أن أي حركة نفسية صغيرة تكاد تقطعه. ففي كل صفحة تقريبًا، يتجلى حضور الطفل الداخلي، ذاك الطفل الذي كنا نظنه اندثر مع الزمن، لكنه يظهر هنا بكل جروحه الصغيرة التي لم يجد أحدًا يضمدها. يذكّرنا الكتاب بأن الإنسان، مهما كَبُر، يبقى أسير نظرة الأب الأولى إليه: نظرة فخر، أو خذلان، أو إهمال، أو خوف. تلك النظرات التي تُصبح أحيانًا هوية كاملة نحملها دون وعي.


عماد رشاد يعيد صياغة العلاقة مع الأب بطريقة تجعلنا نرى الحقيقة من زاويتين: زاوية الابن المجروح، وزاوية الأب الذي لم يتعلّم كيف يكون أبًا. وهذه الازدواجية تمنح الكتاب طابعًا إنسانيًا عميقًا، لأنه لا يكتفي بالحديث عن الألم، بل يكشف خلفياته ودوافعه، ثم يضع خطوات صغيرة نحو التحرر.


القوة الحقيقية في هذه الصفحات تكمن في أنها تمنح القارئ الشجاعة ليقول: أنا لست سيئًا لأنني تأذيت… أنا فقط إنسان. وهذه الرسالة وحدها كافية لتغيير مسار حياة كاملة، أو على الأقل لفتح نافذة يتسلل منها ضوء خفيف بعد سنوات من الصمت.

“أبي الذي أكره” كتاب يفتح بابًا صعبًا، لكنه ضروري.
ليس كل الآباء سيئون، وليس كل الأبناء مجروحين، لكن هناك آلاف القصص الصامتة التي لا يجرؤ أصحابها على الاعتراف بأن ما عاشوه لم يكن عاديًا… ولا صحيًا.

هذا الكتاب يحرر القارئ من الشعور بالذنب.
يقول له:
نعم، ما شعرتَ به حقيقي.
نعم، الألم الذي لم تفهمه وأنت طفل كان ظلمًا.
نعم، من حقك أن تتكلم.

وهذه أهم رسالة يقدمها د. عماد رشاد.

الجميل أن الكتاب لا يشجع على الكراهية، بل يشجع على الوعي.
لا يدعو إلى القطيعة، بل إلى فهم الجذور العميقة للصدمات، كي لا تتكرر في العلاقات القادمة، ومع أبناء المستقبل.

وقد يكون أعظم ما يحققه هذا العمل هو أنه:

  • يحرر الأب من المثالية
  • يحرر الابن من اللوم
  • يحرر الطفولة من الصمت
  • ويحررنا نحن من تكرار نفس الألم عبر الأجيال

إنه كتاب يوقظ القلب، ويهز الذاكرة، ويجعلنا نعيد التفكير في كل ما عشناه دون أن نملك الكلمات له.
كتاب سيقرأه الكثيرون بدموع صامتة، لكنه سيترك خلفه نورًا صغيرًا يبدأ منه الشفاء.

اقرأ أيضا : نظرة في مرآة الروح: نظرية الفستق


التقييم النهائي

  • اسم الكتاب: أبي الذي أكره
  • المؤلف: د. عماد رشاد عثمان
  • عدد الصفحات: 240 صفحة تقريبًا
  • التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ 4 / 5
  • الفئة المناسبة: محبو الكتب النفسية، العلاجية، القراء الذين يعانون من صدمات أسرية، وكل من يبحث عن فهم ذاته
  • اللغة: العربية
  • الموضوع: العلاقة بالأب، الصدمات النفسية، الطفل الداخلي، الشفاء
السابق
فيرونيكا تقرر أن تموت: (تطوير الذات وكويلو)
التالي
ممتلئ بالفراغ – رحلة هشاشة النفس