Contents
المقدمة
في “ياسمين أبيض”، تعود إلينا الكاتبة د. خولة حمدي بأسلوبها الفريد الذي يمزج بين التوثيق الاجتماعي والنسج الأدبي، بين عمق المشاعر الإنسانية وتعقيدات العلاقات، وبين الجراح التي تتركها الحياة في أرواحنا والضوء الذي يداويها في نهاية المطاف ،تأتي رواية ياسمين أبيض في 559 صفحة محملة بعوالم شاسعة تمتد بين باريس وسويسرا وتونس والمغرب وعمان، لتكمل ثلاثية بدأت منذ روايتها الأولى “غربة الياسمين” مروراً بـ “ياسمين العودة “، وها هي تختمها بعمل يحمل في قلبه من البياض والشفافية والصدق ما يعكس اسمه تماماً: “ياسمين أبيض”.

الهوية بين الأمومة والإيمان
أسرتني العلاقة بين عز الدين ووالدته ياسمين، تعلقها بطفلها المريض وخوفها من خسارته وقوتها، تعلقها بالله وعدم فقدانها للأمل رغم تعرضها لكثير من الأزمات. الأم لا تعوض.
تتجلى هذه العلاقة بين ياسمين وطفلها عز الدين كمحور رئيسي من محاور الرواية. الأم في أدب خولة حمدي ليست مجرد خلفية، بل هي جذر وبوصلة وملاذ ، تمثل ياسمين النموذج الأمثل للأم المؤمنة، الصلبة، التي لا تهتز أمام الأقدار رغم هشاشتها الداخلية، إنها امرأة تقف بين حبها لابنها ورضاها بقدر الله، تصارع الألم والخوف، ولكنها لا تفقد البوصلة.
في كل مشهد يجمع بين ياسمين وعز الدين، يتراءى للقارئ عمق الأمومة وقدسيتها، حيث لا تقف عند حدود العناية والرعاية، بل تتجاوزها إلى التضحية والفداء، إلى أن تصبح الدعاء الممزوج بالأمل، والدموع التي لا يراها أحد.
الزواج في الرواية
كما آلمتني العلاقة بين آية وعمر أرهقت كاهلي، آية معطاءة محبة توقعت أن تكسب قلب عمر بحنانها الدائم ووقوفها معه دوما لكن سبحان من زرع الحب في القلوب!
تُعالج الرواية بعين بصيرة موضوعًا شائكًا ومعقدًا وهو فشل العلاقات رغم توفر مقومات النجاح الظاهري. شخصية آية تمثل العديد من النساء اللواتي يتسلحن بالحب والنية الطيبة ظنًا أن هذا كافٍ ليكسبن قلوب أزواجهن، إلا أن الحب – كما تقول خولة حمدي – لا يُزرع بالإحسان فقط، بل هو نعمة من الله، يهديها لمن يشاء.
لم يحبها عمر لكنه أحسن معاملتها كزوج مسلم يفهم دينه حقا حاول بكل ما فيه أن تكون علاقته بآية علاقة ناجحة، لكن المرأة تشعر إن كان قلب زوجها معها أم مع أخرى.
في هذه العلاقة، نشهد صراعًا داخليًا من نوع خاص، رجل صالح يحاول أن يُنصف زوجته، وامرأة تحب بإخلاص لكنها لا تجد مقابلًا عاطفيًا، فتعيش تناقضًا موجعًا بين الواجب والمشاعر ، المرأة لا تكسرها المصاعب بقدر ما يكسرها غياب الحب.
الزواج مؤوسسة تحتاج إلى رحمة ومودة وحب لتستمر، تحتاج أن تتقبل الشخص كما هو أن تقدر احتياجاته وإن بدت لك سخيفة، أن تحترم ماضيه ولا تحاول مسحه من رأسه، الزواج أن تشارك زوجك فرحك وحزنك ألمك وكل ما فيك دون أن تخاف، وهذا ما كان يبحث عنه عمر.
بهذا التصور العميق، تسلط الرواية الضوء على فلسفة الزواج الحقيقية، بعيداً عن المظاهر والعقود والطقوس، تقدم خولة حمدي في “ياسمين أبيض” رؤية ناضجة للعلاقات الزوجية، حيث الاحتواء لا يعني تغيير الآخر بل قبوله، حيث الحب ليس قولاً بل مشاركة يومية تتطلب شجاعة عاطفية.
هذه الرؤية تعكس أزمة الكثير من الأزواج المعاصرين الذين لا يفهمون أن الحب ليس فقط في البدايات، بل هو ما يستمر بعد أن يبرد الشغف ويبدأ التحدي الحقيقي: أن تحب الآخر وهو متعب، وهو غاضب، وهو منكسِر.
آلام الطفولة وظلالها
هناك الكثير من الشخصيات التي تركت أثرًا في قلبي كشخصية الطفل صهيب الذي خاف أن تتخلى عنه عائلته الجديدة إن هو ارتكب ذنبًا ما.
وكذلك جاسر الذي رغم فعله الشنيع إلا أنني تعاطفت معه لعلمي أن تصرفه هذا لم ينتج إلا عن مرض ما في نفسه.
هنا تبرز مهارة الكاتبة في رسم الشخصيات الثانوية، فلا تُهمشها بل تمنحها من العمق ما يجعلها تؤثر في القارئ. صهيب، الطفل الذي يحمل جراح الماضي وخوف الهجر، هو نموذج حيّ للطفل الذي يربى على الخوف لا على الثقة، الذي ينتظر العقوبة حتى في لحظات الفرح ، هو صدى لكل طفل عاش تجارب فقدان أو تبني أو انتقال بين أسر.
أما جاسر، فهو أحد أكثر الشخصيات تعقيداً، شخصية ترتكب الخطأ لكنها ليست شريرة، بل ضحية خلل نفسي لم يجد من يعالجه. هذا ما يجعل الرواية تتجاوز الطرح الأخلاقي إلى الطرح الإنساني: لا تصف الناس بأفعالهم فقط، بل افهم دوافعهم.
رحلة النفس إلى النور بعد العتمة
سبحان من يزرع فينا حب الحياة، سبحان من يجعل قلوبنا تتوهج بعد الكثير من المصائب التي تنزل علينا، ولكن بعد أن يفرجها الله، نجد روحنا التي ظننا أنها لن تقبل على الحياة مرة أخرى، تلهث راكضة بحثاً عن السعادة، بحثاً عن كل لحظة فرح بجانب من نحب.
هذه العبارة تمثل خلاصة فلسفة الرواية، بل ربما فلسفة خولة حمدي في الكتابة كلها: هناك نور ينتظرنا مهما طال الظلام، فقط علينا ألا نفقد الرجاء.
الرواية لا تنكر المصاعب ولا تزين الواقع، لكنها تضع أمامنا باب الأمل مفتوحًا، وتحرضنا على التمسك بالحب وبالله رغم العثرات.
بين الظاهر والحقيقة
هناك من يظن أنه يُحبنا لكنه يكتشف فيما بعد أنه أحب الظاهر منا فقط، وأنه سيهرب أول ما يعرف مكنونات قلبك وأسرار حياتك. وحده من يتقبلك كاملاً يستحق أن تمنحه روحك ونفسك.
في هذا القول تكمن فلسفة عميقة حول الحب الحقيقي، الذي لا ينبهر بالمظهر ولا يتراجع عند أول مفاجأة ، الحب الذي يُبنى على معرفة تامة وتقبل شامل، لا على انبهار لحظي أو توقعات خادعة.
لغة الرواية وأسلوب الكاتبة
كما عهدناها، تكتب خولة حمدي بلغة سلسة لكنها عميقة، بسيطة لكنها ذكية ، تجمع بين الحوار الداخلي المكثف والسرد الخارجي الحيّ، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يرافق الشخصيات لا يقرأ عنها فقط ، الانتقال بين الأمكنة – من باريس إلى عمان – يتم برشاقة دون أن يفقد القارئ الرابط الزمني أو العاطفي.
اقتباسات
1. “وكيف لها ألّا تتغيّر؟ كان آخر عهده بها في فستان زفافها الأبيض، والعالم لا يسع السّعادة التي تسكن صدرها! تفصلها عن تلك اللّحظة مأساة تصيب الفؤاد فلا يبرأ منها أبدًا.”
2. “كان يعرف طعم الخيبة التي تأتي بعد توقعات.”
3. “بعض الأماكن تدخل القلب، فقط لأنّ أرواحًا عزيزة تنتمي إليها.”
4. “لا بدّ من الألم قبل الفرج.”
5. “ليس كل من يبتسم سعيدًا، بعض الابتسامات قناع لدموع ترفض أن تسقط.”
6. “لا أحد يريد أن يَنسى. وبشكل أدقّ: لا أحد يريد أن يُنسى.”
7. “لقد كان عمر شمسًا في سماء وجودها وقد أظلمت دنياها وأشرقت لإعراضه أو اهتمامه لكنّها لم تعد تأبه للشّمس التي أحرقتها إنّها تكتفي بالقمر الذي يضيء بهدوء أوقاتًا يسيرة من مشوارها بل لديها أقمار كثر، وهي قادرة على جلبها.”
8. “كل شيء يمكن إصلاحه، إلا قلب المرأة، فإنه إذا انفطر لا يندمل انشطاره أبدًا.”
9. “لكنّ العلاقات الجميلة تستحقّ خاتمة تليق بها.
“10. “أمنيات النّفس المستحيلة لم تكن تورثه إلا حسرة وألمًا.”
11. “هي لم تكن تنتظر معجزة، كانت فقط تأمل أن لا يكون الله قد نسيها.”
12. “كم من لقاءٍ ننتظره بشغف، فإذا به يُطفئ فينا كل لهفة!”
13. “أحياناً، تكون الخيبة درساً في الكرامة.”
14. “ما أصعب أن تكون قلبًا نابضًا في حياة شخص لا يشعر بك.”


الخاتمة
رواية ممتعة كعادة روايات د. خولة حمدي، كثيرة الأحداث وفيها من العبرة ما يكفي.
“ياسمين أبيض” ليست مجرد رواية، بل حكاية عن الشفاء، عن التقبل، عن الحب الذي يداوي، عن الأم التي لا تُنسى، وعن الرحيل الذي لا يعني النهاية.
هي رواية عن الوجع والمغفرة، عن النفس حين تُكسَر وتُرمم، عن الحياة بكل ما فيها من قسوة وجمال.
ينبغي لكل من يبحث عن قصة مكتوبة بالقلب، أن يقرأ “ياسمين أبيض”. ولمن أحبّ ” غربة الياسمين ” و”ياسمين العودة “، فهذه الرواية ليست فقط تكملة، بل هي نضوج فكري وعاطفي وفني لكاتبة اختارت أن تصوغ الواقع ببصيرة الإيمان ونبض المشاعر.
اقرأ أيضًا :