رواية ” أبابيل ” لأحمد آل حمدان، تلك الحكاية التي تجمع بين الغموض والأسطورة، بين الحبّ المسروق والقدر الذي لا يترك أحدًا دون امتحان.
لا تأتي رواية أبابيل لتقدّم قصة حبّ عادية، ولا لتُشيّد عالمًا خياليًا منفصلًا عن الواقع. إنها رواية تبحث في أصل الإنسان، في ثنائية الروح والجسد، في المعنى العميق للخير والشر، وفي السؤال الأزلي: هل يختار الإنسان قدره، أم أن القدر هو من يختاره؟ ستجدين نفسكِ، منذ الصفحات الأولى، أمام عالم من “الجنيات” و”الغيلان” و”الملائكة” و”الأبابيل”، عالم يصنعه أحمد آل حمدان بقدرة لغوية شاعرية، ويغذيه بالأساطير العربية والإشارات القرآنية دون أن يدخل في منطقة مباشرة أو وعظية.
إنها رواية تفتح الباب لخيال واسع، لكنها أيضًا لا تتخلى عن الأسئلة الإنسانية الحارقة: الحب، الألم، الانتقام، وسرّ الروح.
وفي عالم مزدحم بالروايات التي تكرر نفسها، تأتي أبابيل كنافذة تُفتح على سماء مختلفة؛ سماء تحمل ظلالًا من الأسطورة ونورًا من الروح. هي ليست مجرد حكاية تُروى، بل تجربة تُعاش، تُعيد ترتيب الأسئلة العميقة في داخل القارئ. ستشعرين منذ السطر الأول بأنكِ أمام عملٍ يريد أن يلمس قلبكِ، لا أن يدهشكِ فقط. رواية تُشبه من يقرؤها؛ لأنها تمنحه فرصة لأن يرى ضعفه وقوته في آن واحد، وتمنحه — قبل كل شيء — مساحة يتأمل فيها حقيقته بعيدًا عن صخب الواقع.
ما يلفت النظر أولًا في أبابيل هو قدرة الكاتب على بناء “كون” كامل بقوانينه الخاصة.
العالم مقسوم بين:
الجنيات وما يحيط بهن من جمال وقدرات خارقة.
الغيلان بطبيعتهم المظلمة وشكلهم المرعب.
الأبابيل في علاقتهم الروحية بالسماء.
الإنس الذين يصبحون مركز الصراع الحقيقي.
ورغم ما يبدو من اختلافات، إلا أن جميع هذه المخلوقات تتقاطع في نقطة واحدة: الضعف الإنساني؛ الحاجة للحبّ، الخوف من الفقد، والرغبة في النجاة.
كان أحمد آل حمدان بارعًا في جعل القارئ يصدّق هذا العالم، لا لواقعيته، بل لصدقه؛ وكأن الخيال يصبح هنا أقرب الطرق للوصول إلى “حقيقة” الإنسان.
الحب في الرواية
الحبّ هو المفصل الرئيس، المحرّك الأكبر لكل الأحداث يبدو للوهلة الأولى حبًا بسيطًا بين “عازف” الجنيّة “إيلاف”، لكنه يتحوّل تدريجيًا إلى سؤالٍ وجودي: هل الحبّ قوة تبني الإنسان أم تدمره؟
الكاتب يقدّم الإجابة بطريقة مركّبة؛ فالحبّ يرفع الشخصيات إلى قمّة إنسانيتها، لكنه أيضًا يجعلها تخطئ، تتجاوز الحدود، وتخسر أكثر مما تملك.
“بعض الحبّ يا إيلاف يشبه النار، يبدأ بدفء وينتهي باحتراق.”
هذا ليس حبًا ورديًا، بل حبّ صعب، مؤلم، حقيقي… كما في الحياة تمامًا.
لكنّ الجميل أن الكاتب لا يصوّر “الشر” كقيمة مطلقة، بل يجعل له صوتًا وحكاية وسببًا حتى الغيلان، رغم قسوتهم، يُقدّمون بطريقة تجعل القارئ يتساءل: هل هم أشرار حقًا؟ أم ضحايا لقدرٍ لم يختاروه؟
أما الأبابيل فيحملون رسالة أكثر روحانية؛ إنهم رمز للمساعدة ، للقوة التي تأتي من مصدر لا يراه البشر.
“النور لا يحتاج لمن يؤمن به… يكفي أن يشرق.”
عازف
شخصية “عازف” تُعَدّ من أفضل الشخصيات التي كتبها المؤلف هو كائن يقف بين عالمين: الجنيات والإنس، بين الواجب والرغبة، بين الانتماء والضياع.
يمتلك عازف قلبًا رقيقًا، لكنه يُدفَع إلى قرارات أكبر من طاقته، فيجد نفسه أمام خسارات متتالية ما يجعل الشخصية واقعية رغم خياليّتها هو مقدار الألم الذي تحمله. لا أحد يخوض معركة بلا ندوب، وهذا ما يحدث مع عازف طوال الرواية.
“لم أخَف الظلام يومًا، كنت أخاف من نفسي حين يشتعل الضوء في داخلي.”
إيلاف
إيلاف ليست مجرد “محبوبة” في الرواية؛ إنها رمز للسلام الداخلي الذي يبحث عنه البطل. تمتلك مزيجًا من الحكمة والبراءة وهي التي تعلّمه معنى الحبّ، وتكشف له معنى الفقد.
وجودها هو بداية الحكاية… وغيابها هو بداية السقوط لذلك تصبح إيلاف “ذاكرة الألم” في الرواية، كما تصبح “ذاكرة النور” في الوقت نفسه.
اللغة والأسلوب
أحمد آل حمدان يكتب بلغة بين الشعر والسرد؛لغة انسيابية، عاطفية، سهلة، لكنها حافلة بالصور العميقة.
قد يمرّ القارئ بجملٍ تشبه الدعاء، وأخرى تشبه القصيدة، وثالثة تشبه صفعات القدر.
“نحن لا نكبر بالعمر، نحن نكبر بما يسقط منا.”
اللغة هنا ليست للزينة؛ إنها جزء من بناء العالم الروائي.تعطي الخيال جمالًا إضافيًا، وتعطي القارئ مساحة للتأمل.
ليس الهدف تشبيه مباشر أو إسقاط ديني، بل استخدام الرموز لإضفاء عمق روحي على الأحداث.
الإيقاع السردي
الرواية تبدأ ببطء نسبي، ثم تتصاعد في الأحداث فجأة، ثم تهدأ مرة أخرى. هذا الإيقاع قد لا يناسب القرّاء الذين يحبون الحبكات السريعة، لكنه مناسب تمامًا لطبيعة الرواية التي تعتمد على “التأمل” أكثر من الحركة.
كل مشهد يبدو وكأنه مكتوب ليجعل القارئ يفكّر، لا ليمرّ عليه بسرعة.
النهاية
لا يمكن الحديث عن النهاية دون الإشارة إلى الوجع الذي تحمله.ليست نهاية سعيدة، وليست مأساوية بالكامل… بل نهاية تشبه الحياة؛مزيج من الأمل، والفقد، والنضج.
النهاية تُغلق الصراع وتفتح أبوابًا جديدة للمعنى وتترك القارئ في حالة تفكير طويلة.
حين تُغلق آخر صفحات أبابيل، لا تنتهي الحكاية كما قد يظن القارئ. على العكس، تبدأ حكاية أخرى… حكاية حديثك الداخلي مع نفسك. تلك الرواية ليست مجرد خيال هارب من واقع مُثقل، بل مرآة صغيرة تُريك ما في داخلك بطريقة لا تفعلها الروايات الواقعية غالبًا. ستسألين نفسك: لماذا أحببت إيلاف؟ لماذا شعرت بانكسار عازف؟ لماذا بدا عالم الغيلان قريبًا رغم غرابته؟ لأن الرواية ليست عن المخلوقات التي فيها… بل عن الإنسان الذي يقرؤها.
في كل صفحة، هناك سؤال عن الحبّ، وعن الخسارة، وعن الثمن الذي يدفعه القلب حين يختار وفي كل مشهد، هناك تذكير بأن النور ليس مجانًا، وأن الطريق إلى الذات يمرّ دائمًا عبر الألم ستجدين نفسكِ تتأملين أين يكمن الشر الحقيقي… هل في الغيلان؟ أم في القرارات التي نتخذها ونتظاهر بأنها صائبة؟
وهناك، بين السطور، رسالة هادئة: الخير ليس دائمًا منتصرًا، لكنه دائمًا موجود والحب لا يحمي صاحبَه، لكنه يمنحه سببًا ليبقى واقفًاأما الفقد… فهو بداية لا نهاية؛ لأنه يعيد تشكيل الروح من جديد.
“أحيانًا، لا يربح الطاهر إلا حين يخسر.”
اقتباسات
“رغم نورها، كانت إيلاف تملك ظلالًا لا يراها أحد سواي.”
“القوة ليست أن تهزم… بل أن تبقى واقفًا بعد الهزيمة.”
“الحبّ امتحان، ومن ينجح فيه لا يعود كما كان.”
“لا شيء يعذّب الكائن مثل اختياره لما لم يُخلق له.”
“كنت أبحث عن الله في السماء، فوجدت أثره في قلبي.”
“القدر طريق… ونحن المسافرون بغير خرائط.”
“غيابها لم يطفئ قلبي… بل أشعله.”
“نحن نُولد من نور، لكننا نحيا في ظلال طويلة.”
“الخوف ليس من الشر… الخوف ممن يصبح شريرًا وهو يظن نفسه على حق.”
“كنت أسمع صراخ قلبي… ولم يسمعني أحد.”
التقييم النهائي
اسم الرواية: أبابيل اسم الكاتب: أحمد آل حمدان التقييم: ⭐⭐⭐⭐ 4/5 الفئة المناسبة: محبي الفانتازيا الروحية، الأدب الرمزي، قصص الحب العميقة اللغة: العربية الموضوع: الحب، الروح، الصراع بين الخير والشر، الأسطورة، الفقد