Contents
المقدمة
في زمن باتت فيه المشاعر خجولة، والعلاقات سطحية، تأتي رواية “صاحب الظل الطويل” للكاتبة جين ويبستر لتذكرنا بأن الكلمات المكتوبة بقلب صادق قد تصنع المعجزات. هذه الرواية ليست مجرد حكاية فتاة يتيمة تكتب رسائل إلى رجل مجهول ، إنها اعتراف طويل الأمد بأن الحب يمكن أن يولد من الحرف، وأن الإنسان حين يُمنح فرصة ليتكلم بحرية دون خوف أو أقنعة، فإنه يكشف عن أجمل ما فيه.
تلك الحروف التي كتبتها جودي أبوت – بطلتنا الصغيرة – لم تكن رسائل تقليدية ، لقد كانت صوتًا نابضًا بالحياة، امتدادًا لنبض قلب أنثوي ينمو في الظل، يكتشف ذاته ببطء، ويواجه الحياة بالضحك والدموع.
عن الرواية
تبدأ الحكاية في دار الأيتام، حيث تعيش جيروشا أبوت، فتاة يتيمة لا تعرف شيئًا عن ماضيها سوى اسم اختارته لها مديرة الدار من كتاب على الرف ، وبين الجدران الرمادية لتلك المؤسسة، تبدأ قصتها بالانفتاح حين يحضر أحد الأوصياء الغامضين اجتماعًا للمجلس، ويقرر، بدافع غير واضح تمامًا، أن يمنح هذه الفتاة فرصة للدراسة الجامعية. الشرط الوحيد؟ أن تكتب له رسائل شهرية تخبره فيها بتفاصيل حياتها وتطورها الدراسي، دون أن تتوقع منه أي رد.
وهكذا تولد شخصية “صاحب الظل الطويل”، الرجل المجهول الذي لا نعرف عنه شيئًا، باستثناء ظله الطويل الذي انعكس على الحائط يوم زياراته.
الرواية كُتبت بأسلوب الرسائل – وهذا ما جعلها تنبض بتفرد مميز – حيث نتابع الأحداث من خلال ما ترويه جودي وحدها، دون صوت مقابل، هذه التقنية في السرد منحت القارئ امتيازًا خاصًا، جعله يقترب منها أكثر من قرب أي شخصية في أي رواية تقليدية، فهي لا تحكي لأحد، بل تكتب لنفسها .
وفي كل سطر، وكل رسالة، تشعر أن جودي لم تكن تخاطب رجلًا مجهولًا فقط، بل كانت تخاطب الحياة، وتحاول فهمها، تنمو أمامنا من فتاة مشوشة، خجولة، إلى امرأة ناضجة قادرة على التفكير والاستقلال والاختيار. وبين السطور، نرى الضحك والسخرية والخيبة والدموع والتحدي – كل ما يجعل من إنسان إنسانًا.

إلى جودي
لذلك كتُبت أنا رسالة لجودي
عزيزتي جودي أبوت ..
أكتب لك هذه الرسالة يوم الأربعاء منتصف الليل بعد قراءة رسائلك إلى صاحب الظل الطويل، لأخبرك ما لم تخبراه بك سالي وجوليا .
نحن جميعاً نحتاج صاحب الظل الطويل وإن كنا مع عائلاتنا ولدينا منازل وجدات، نحن جميعاً بحاجة إلى ذاك الطويل الذي نستطيع إخباره بتفاصيل يومنا التافهة دون أن يمِّل منا ، ويلتفت بوجهه إلى الجهة الأخرى بحثاً عن موضوعٍ أكثر حماساً من هذا !
نحن بحاجة جميعاً لمن نحدثه عن أحلامنا المؤجلة وعن أحلامنا التي باتت حقيقية أيضا ، وعن اللحظات التي خسرنا بها أنفسنا .
وهل يوجد أصدق من الرسائل التي تُكتب لمن نجهله؟”أن تكتب الرسائل لشخص لا تعرفه تكون أصدق الرسائل!لأنك لا تعرف ما يحب وما يكره لن تكون حيادياً أبداً في أي أمر وستظهر ردة فعلك الحقيقية فوراً ، لن تغير رأيك لتتشكل مع طبيعة المرسل إليه لأنك تجهله .
هذا بالضبط ما فعلته جودي طوال الرواية، لقد كتبت دون تكلّف، دون أن تفكر في رد فعل المتلقي، لم تحاول أن تُرضي أو تتجمّل، بل كانت على حقيقتها: مرحة، عفوية، ناقدة، خائفة أحيانًا، طموحة دائمًا.

تطوّر الشخصية
الرواية تصحبنا في رحلة تطور شخصية نادرة.،ففي بداية القصة نرى فتاة صغيرة ترى في الحياة فرصة لا بد أن تُغتنم، لكنها لا تملك أدواتها، ومع كل فصل دراسي تقطعه، نرى كيف تبني هذه الطفلة جسورًا بين ماضيها المظلم ومستقبلها المتوهج.
تتعلم جودي كيف تواجه الطبقية، وكيف تشعر بالاختلاف أمام الطالبات الثريات، لكنها لا تتراجع، بل تتقدم بثقة، أحيانًا بثقة زائفة لكنها ضرورية. وتكتشف تدريجياً أن قيمتها ليست في أصلها، بل في فكرها، في كتابتها، في قدرتها على التعبير.
كانت جودي كاتبة بالفطرة، وكانت موهبتها طريقها إلى الحرية ،وربما لهذا اختارت الكاتبة جين ويبستر أن تسرد القصة على لسانها وحدها، لتقول لنا إن من يمتلك الكلمة يمتلك العالم.
اقرأ أيضًا : قراءة 1 في “أرض النفاق” .
رسائل بلا رد
قد يتساءل القارئ: لماذا لم يرد صاحب الظل الطويل على رسائلها؟ أليس ذلك قسوة؟ لكن مع التقدم في الرواية، نفهم أنه لم يكن بحاجة للرد، لقد كان يستمع لها بطريقته الخاصة، ويدعمها بصمته ،وفي ذلك رمزية عالية: ليس كل من يحبنا يظهر، أحيانًا يكون الحب في الظل، في الصمت، في الاستمرار بدعمنا دون شروط.
وحين نصل إلى نهاية الرواية، وتنكشف هوية “صاحب الظل الطويل”، نتفاجأ – ربما – ولكن لا نصدم، لأننا كنا نعرفه دون أن نعرف ،لقد كان حاضرًا في كل كلمة، في كل خطوة خطتها جودي بثقة، في كل مساعدة تلقتها دون أن تطلب.
بين الرسوم والواقع
ما لا يمكن إنكاره أن الرواية أصبحت مألوفة أكثر لدى جمهورنا العربي بفضل المسلسل الكرتوني الذي بُث خلال فترة التسعينات، والذي قدّم جودي أبوت ببراءة الطفولة وحيوية الصوت العربي الدافئ.
لكن الرواية، في نصها الأصلي، أغنى، وأعمق، وأكثر إنسانية، فهي لا تخاطب الأطفال فقط، بل تنادي الأرواح المتعبة فينا جميعًا.
هي قصة لكل من يشعر بأنه وحيد في هذا العالم، ولكل من يحلم أن يجد من يستمع إليه دون أحكام.،هي مرآة لمن يخاف من ماضيه، لكنه يريد أن يبني مستقبلاً جديدًا.

لماذا نحب “صاحب الظل الطويل“
لأننا نحتاج جميعًا إلى صاحب ظل طويل. نحتاج لمن نكتب له تفاصيل يومنا العادية دون أن نشعر بالحرج ، نحتاج إلى شخص مجهول قليلاً، لا يحاصرنا بأسئلته، بل يترك لنا المساحة لنكون نحن.
الرواية تعلّمنا أن نحب أنفسنا، أن نقف مع ذواتنا، أن نستمر رغم الألم،وفي عالم سريع ومليء بالضوضاء، تمنحنا “صاحب الظل الطويل” هدوءًا نادرًا، ولحظة تأمل صافية في جوهر الإنسان.
اقرأ أيضًا : “شجرة الفهود” – ملحمة التاريخ والعشق في أدب سميحة خريس
اقتباسات
1.”أنا سعيدة جدًا، حتى أنني لا أستطيع أن أصدق أنني حقيقية. أعتقد أحيانًا أنني لست سوى حلم شخص آخر، وقد أستيقظ في أي لحظة.”
2.”إنني لا أطلب منك أن ترد على رسائلي، ولكن فقط فكر بي أحيانًا، وقل لنفسك: (جودي أبوت بخير).”
3.”لقد قررت أن لا أدع الماضي يؤذيني، فالماضي قد انتهى، وأنا الآن إنسانة جديدة.”
4.”أريد أن أكتب شيئًا يجعل الناس يضحكون، ويشعرون بأنهم أكثر سعادة مما كانوا عليه قبل أن يقرأوه.”
5.”إن أعظم شيء في العالم هو أن تكون حرًا، أن تذهب حيث تريد، أن تقول ما تفكر به، أن تحب من تشاء.”
6.”كل فتاة يجب أن تحلم، فالحلم هو الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أحد أن يأخذه منا.”
7.”أحيانًا، أحتاج فقط إلى شخص أكتب له، حتى لو لم يرد.”
8.”أنا لا أفهم لماذا يجب أن تُخفى الحقيقة دائمًا تحت قناع من المجاملات الاجتماعية.”
9.”أن تكون وحيدًا لا يعني أن تكون ضعيفًا، بل يعني أن لديك وقتًا أكثر لاكتشاف نفسك.”
10.”حين يكون الإنسان حراً، لا يخشى شيئًا.. لا الرأي العام، ولا النقد، ولا حتى الفشل.”

الخاتمة
“صاحب الظل الطويل” ليست فقط رواية لليافعين، بل نص أدبي يليق بكل عمر، فيها من الذكاء ما يُدهشك، ومن البساطة ما يُطمئنك، ومن الحنان ما يُربّت على كتفك إنها رواية مكتوبة بروح امرأة أرادت أن تقول لكل فتاة في العالم: أنتِ لستِ وحدك، حتى وإن ظننتِ ذلك.
رواية خفيفة جداً قريبة من الروح لسلاستها ومعرفة ما فيها من أيام طفولتنا .
لتوضح لنا أن ما نراه عادياً هو حلم عند غيرنا .يتعاطف القارئ كثيراً مع جودي أبوت وبنفس الوقت يعجب بقوة شخصيتها وروحها المرحة.
في النهاية، نحن نكتب دائمًا – مثل جودي – لمن لا نعرف. نكتب كي نبقى، كي نتنفس، كي نحكي قصتنا دون خوف.
وربما في مكان ما، هناك من يقرأ رسائلنا بصمت، ويبتسم.
اقرأ أيضًا : ساق البامبو صراع الهوية والبحث عن الوطن