اقرأ معنا

حيونة الإنسان: كيف نصبح جلادين بلا وعي

في كل مرة نقرأ كتابًا يناقش جوهر الإنسان، نبحث عن مرآة نرى فيها أنفسنا، نبحث عن شيء يعرينا من الزيف، ويكشف هشاشتنا تحت وطأة الخوف أو السلطة أو التبعية.

هذا ما فعله ممدوح عدوان في حيونة الإنسان، لكنه لم يفعل ذلك برفق، بل باغتك بمرآة مصقولة بالوجع، ووضعها أمامك فجأة، وكأنه يقول: هذا أنت حين تفقد إنسانيتك.

الكتاب ليس رواية، بل نص فكري مكثف، يتأمل في السؤال الجوهري: لماذا يتحول بعض البشر إلى وحوش عندما يمتلكون السلطة؟ولماذا يمارس الإنسان القمع، حتى لو كان ضحية له من قبل؟لماذا يصمت المجتمع أمام الظلم، بل أحيانًا يبرره أو يصفق له؟يرتكز عدوان على أطروحات إيريك فروم، خاصة في كتابه تشريح التدميرية البشرية، ويستند إليها ليشرح كيف يتحول الإنسان إلى أداة للعنف.

يتحدث عن الجلاد، عن المذعِن، عن الساكت، عن نحن جميعًا حين نغض الطرف، أو نطأطئ رؤوسنا، أو نمارس الظلم دون أن نشعر.

هذا الكتاب يرفض أن يكون محايدًا، لا يقدم تحليلات باردة، بل يصرخ، يحتج، ويصفعك بالحقيقة.

هو صوت الضمير حين يصحو فجأة بعد سبات طويل.

اقرأ أيضا :أسعد امرأة في العالم تأمّل في قلب الأنثى

الطاعة

عدوان لا يناقش الظلم بوصفه خطأ سياسيًا فقط، بل بوصفه انحدارًا أخلاقيًا يحدث أولًا في داخل النفس.الحيونة لا تبدأ عندما ترفع عصا على جسد ضعيف، بل تبدأ حين تسكت، حين تبرر، حين تضحك، حين تتبنى لغة الجلاد دون أن تشعر.

اللغة التي يستخدمها الكاتب قاسية لكنها صادقة، تراها أحيانًا مثل خنجر في القلب، لكنها خنجر لا يجرحك عبثًا، بل يجرحك ليوقظك.

ليوقظ ذاك الجزء الخامل من إنسانيتك، الجزء الذي رضخ كثيرًا، وتنازل أكثر، حتى أصبح يرى الوحشية أمرًا طبيعيًا.يعرض عدوان أمثلة من التاريخ، من السجون، من محاكم

التفتيش، من مراكز التعذيب في الأنظمة الشمولية.

يضع أمامك صورًا حقيقية، لا مجال فيها للتهرب، لا مجال للزخرفة، فقط حقائق دامية، تعرّي الإنسان حين تتحطم كل الضوابط.

هو لا يكتب عن الغرب فقط، ولا عن النازية أو الشيوعية أو الاستعمار، بل عن واقعنا نحن، عن الاستبداد العربي، عن المعتقلات، عن المثقفين الذين صمتوا، عن القضاة الذين غطوا الظلم بالقانون، عن الناس العاديين الذين تحولوا إلى أدوات في يد سلطة لا ترحم.

اقرأ أيضا : النباهة والاستحمار عندما يصبح الوعي مقاومة

اقتباسات

الكتاب مليء بالاقتباسات المؤلمة، التي تترك أثرًا طويلًا بعد قراءتها.

منها قوله: “أسوأ ما فعله الاستبداد أنه علّم الناس الكذب، وعلّمهم أن يقبلوا الظلم، بشرط ألا يُمسّهم مباشرة.”عبارة كهذه لا تمر مرور الكرام، إنها تصفع، لكنها أيضًا تشرح، تفضح، وتحرّض على التفكير.

الكاتب لا يقدم معلومة فقط، بل يقدم شعورًا، يربكك، يهزك من الداخل، يضعك في مواجهة شخصك الحقيقي.

أنت لست متفرجًا، بل متهمًا، وسؤاله الضمني هو: ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان الجلاد؟ أو مكان الضحية؟ أو حتى في الخلف، تتفرج وتصفق؟

اقرأ أيضا :الطريق إلى بئر السبع الانتماء والهوية

السكوت

لا يتسامح عدوان مع الصامتين، أولئك الذين شاهدوا الألم، ولم يتدخلوا.

برأيه، من يسكت على الظلم، يشارك فيه، حتى وإن لم يرفع عصا أو يكتب تقريرًا.

السكوت ليس حيادًا، بل خيانة، وهو الوجه الآخر للخوف، والأنانية، والمصلحة.

هو أقسى من الأذى أحيانًا، لأنك حين تصمت، تمنح الجلاد شرعية، وتمنح الضحية شعورًا بالخذلان المزدوج.

في هذا الكتاب، الصمت لا يُعفى، بل يُدين، ويُسائل، ويُجرد من الأعذار.

الوظيفة

يتوقف الكاتب عند مفهوم “الوظيفة” بوصفها مساحة مغلقة يموت فيها الضمير ببطء.

حين يتحول الإنسان إلى موظف ينفذ الأوامر فقط، دون تفكير أو اعتراض، فإنه يقتل جزءًا من إنسانيته كل يوم.

يحدثنا عن السجان، عن الشرطي، عن المحقق، عن الكاتب في الجريدة الرسمية، عن مدير المدرسة الذي يعلم الأطفال الخضوع، لا المعرفة.

كل هؤلاء قد لا يرفعون سلاحًا، لكنهم جزء من آلة تفرم الإنسان دون أن تنزف.

الحيونة هنا ليست بشعة بصريًا، بل ناعمة، مؤسساتية، مغلفة بالروتين، لكن آثارها مدمرة.لأن الإنسان حين يفقد حسه النقدي، ويكتفي بأن يكون ترسًا في ماكينة، يصبح أخطر من الجلاد ذاته.

الخوف

يرى عدوان أن المجتمعات المستبدة لا تُبنى على القمع وحده، بل على الخوف.

الخوف يتحول إلى عقيدة، إلى ثقافة يومية، إلى طبع متوارث.

الناس يخافون من السؤال، من الاعتراض، من الاختلاف، من التجديد، حتى من التفكير.

وهذا الخوف يجعلهم يقبلون بالقليل، يرضون بالمهانة، يرفضون التغيير، يحمون السقف المنخفض بأيديهم.

الخوف لا يمنعك فقط من أن تكون حرًا، بل يمنعك من أن تكون حيًا.

وحيونة الإنسان، كما يصفها الكاتب، تبدأ من هذه اللحظة: حين تخاف، فتسكت، فتتعود، فتصبح جزءًا من القبح.

لماذا نحب جلادينا

طرح ممدوح عدوان هذا السؤال بمرارة: لماذا نحب من يضربنا؟

لماذا ندافع عن الظالم؟

لماذا نصنع له صورًا وتماثيل ونغني له الأغاني؟

يجيب من خلال تحليل عميق، أن الجلاد أحيانًا يتحول إلى رمز حماية، رمز قوة، والناس الذين لا يملكون شيئًا، يتعلقون بأي رمز، حتى لو كان قاسيًا.

يحبونه لأنهم يخافونه، يقدسونه لأنهم لا يملكون بديلًا، وهكذا تتحول الحيونة إلى ثقافة شعب.

هل نحن أبرياء

من أخطر الأفكار التي يطرحها الكتاب، أن البراءة الجماعية كذبة.فكل من صمت، أو برر، أو ضحك، أو خاف، أو كتب منشورًا يمجد فيه الطغيان، هو ليس بريئًا.

الناس ليسوا مجرد ضحايا دائمًا، أحيانًا هم شركاء، مشاركون بالصمت أو بالمشاركة، أو بالتغاضي.

وما يخيف أكثر، هو أن معظمهم لا يشعرون أنهم شركاء، بل يعتقدون أنهم “حياديون”، وهذه هي المصيبة الكبرى.

نهاية الإنسان

الكتاب ليس صرخة سياسية فقط، بل صرخة روحية.عدوان لا يخاف من تسمية الأشياء بأسمائها، لكنه أيضًا لا يقدم حلولًا، لأنه يعلم أن التغيير يبدأ من الداخل.

حين ينهار الضمير، تنتهي الحكاية، لا يهم حينها من هو الحاكم، أو أي حزب في السلطة، أو أي قانون يُطبّق.

المهم هو ما إذا كان هذا الإنسان ما زال يملك إنسانيته، أو باعها تحت اسم الخوف أو الأمان أو الطاعة أو القومية أو الدين.

الجلاد ضحية قديمة

يتناول ممدوح عدوان في مواضع متفرقة من كتابه سؤالًا فلسفيًا شائكًا، هل الجلاد كان يومًا ضحية؟هل هو إنسان محطم، جُرح ذات يوم، وعاد لينتقم من العالم بأكمله؟الكاتب لا ينفي ذلك، لكنه يحذر من الوقوع في فخ التبرير، لأن فهم الدوافع لا يعني القبول بالنتائج.

العدواني ليس دائمًا ضحية، أحيانًا هو شخص اختار السلاح لأنه أسهل من الكلمة، اختار القسوة لأنها تمنحه شعورًا مؤقتًا بالقوة.

والأخطر، أن يكون قد استمتع بذلك، أن يتحول الألم إلى لذة، وأن يتعوّد أن يرى الضعيف دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير.

الإنسان حين يُمارس العنف بشكل متكرر، يفقد حساسيته تدريجيًا، وهذا ما يسميه عدوان: تطبيع القسوة.أن ترى في الظلم ممارسة يومية، أن تضحك على صراخ الآخرين، أن تتعامل مع العذاب كجزء من الروتين.

وهنا تأتي صدمة القارئ، حين يدرك أن ما يقرأه عن الجلاد، قد يشبه تصرفًا مارسه هو، أو قبِله بصمت، أو سمع به ولم يكترث له.

صراع الإنسان

يؤمن ممدوح عدوان بأن الإنسان يعيش معركة داخلية مستمرة بين جانبه المضيء، وجانبه المظلم.

الحيونة ليست حالة ثابتة، بل خيار، لحظة قرار، قد تكون لحظة ضعف، أو لحظة جشع، أو لحظة خوف، لكنها تترك أثرًا طويلًا.

الضمير ليس جهازًا يعمل تلقائيًا، بل شيء يُغذّى، يُدرّب، يُنقّى، ومن لا يرعاه، يترك الباب مفتوحًا أمام الوحش ليتسلل بسهولة.

وهنا يحذر الكاتب من التبلد، من أن تصبح القسوة عادية، من أن يموت الإحساس ببطء، وأنت تظن أنك طبيعي.حين ترى الدم ولا يرتجف داخلك شيء، حين تسمع عن تعذيب ولا تشعر بالغضب، حين ترى قهرًا وتقول: “لا دخل لي”، هنا تبدأ أول خطوة في طريق الحيونة.

فكل صمت، هو تراجع، وكل تبرير، هو مساهمة، وكل ضمير يغفو، يمنح الوحش مساحة جديدة.

لهذا يدعو عدوان إلى الصحو، لا من أجل الثورة فقط، بل من أجل البقاء إنسانًا، حتى في أصغر المواقف.

أن تكون صادقًا، رحيمًا، عادلًا، حتى عندما لا يراك أحد، حتى عندما لا تكون هناك مكافأة، لأن هذا هو جهاد الإنسان الحقيقي.

ويختم بعض الصفحات بما يشبه التوسّل: لا تكن حيونيًا، حتى ولو أغرتك القوة، أو خذلتك الحياة، أو أوهمك الخوف بأن الوحش هو الطريق الوحيد للبقاء.ففي نهاية الطريق، لا يبقى من الإنسان شيء، سوى ما حافظ عليه بداخله، ولو خسر كل شيء حوله.

صرخة أخيرة

في آخر صفحات الكتاب، لا يقدم عدوان خاتمة وردية، لا أمل مصطنع، لا وعد بتغيير قريب.

لكنه يقدم شيئًا أثمن: دعوة للاستفاقة.دعوة لأن تعود إنسانًا، أن ترفض، أن تقول “لا”، ولو في سرّك.

أن تحافظ على نفسك نظيفة من الدم، ولو بالكلمة، أو الموقف، أو حتى بالدمعة.

هو يعلم أن الوحش لا يُهزم بسهولة، لكنه يعلم أيضًا أن السكوت يجعله أقوى.وأن أول خطوة لكسر الوحش، هي أن ترى وجهه في المرآة.

التقييم النهائي

🔹 اسم الكتاب: حيونة الإنسان

🔹 الكاتب: ممدوح عدوان

🔹 عدد الصفحات: 285 صفحة تقريبًا

🔹 التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ 5 من 5

🔹 الفئة المناسبة: للكبار، لمحبي الفلسفة، والمهتمين بالشأن الإنساني والسياسي

🔹 الموضوع: عن القمع، الطغيان، فقدان الضمير، التواطؤ الجماعي، والتحول الوحشي في سلوك الإنسان

السابق
أسعد امرأة في العالم تأمّل في قلب الأنثى
التالي
منزل الست وسيلة… تعرف على بيت الشعراء