اقرأ معنا

النباهة والاستحمار عندما يصبح الوعي مقاومة

في زمنٍ تتكدّس فيه المعلومات، ويضيع الإنسان بين ضجيج العبارات والشعارات، يُطلّ علينا الدكتور علي شريعتي من نافذة فكره المتقد، حاملاً كتابًا صغيرًا في حجمه، كبيرًا في أثره، اسمه: “النباهة والاستحمار”، وكأنّما أراد بهذا العنوان المثير أن يهزّنا من الداخل قبل أن نفتح الصفحة الأولى ، فالنباهة في اللغة تدل على اليقظة والذكاء، أما “الاستحمار”، فهو تعبير صادم أراد منه الكاتب أن يكشف كيف يُسلب الإنسان وعيه، لا بالقوة، بل بالحيلة.

عن الكاتب والكتاب

علي شريعتي (1933 – 1977) مفكر ومثقف إيراني، جمع بين العمق الديني والطرح الثوري والاجتماعي ، نشأ في بيئة علمية، درس في فرنسا وتأثر بالفكر الغربي، لكنه عاد ليصوغ مشروعه الخاص القائم على تحرير الإنسان المسلم من الجمود والخضوع.

أما كتاب “النباهة والاستحمار”، فهو من كتبه النظرية الفكرية المكثفة، ويقع في نحو 80 صفحة فقط، لكن لا يُقاس وزنه بعدد الصفحات، بل بجرأته، وطرحه، وقدرته على تحريك الساكن في ذهن القارئ.

النباهة كشرط إنساني

يبدأ شريعتي الكتاب بالحديث عن مفهوم “النباهة” بوصفه جوهر الإنسانية ، فالإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل كائن يتميز بقدرته على الفهم والتحليل والتأمل، على التساؤل والشك، على نقد الواقع والبحث عن المعنى

.”النباهة هي إدراك الإنسان لواقعه، لذاته، لمجتمعه، لمصيره.”النباهة ليست صفة للنخبة أو المثقفين فقط، بل هي حق للجميع. وهي ليست أمرًا فطريًا، بل مسار يتطلب الجهد والانتباه ومراجعة الذات، بدون النباهة، نعيش كما تعيش الكائنات، نأكل، نتحرك، نطيع، لكننا لا نقرر.

ويفصل شريعتي بين نوعين من الوعي:

الوعي الفردي: إدراك الإنسان لحاله وألمه وطموحه

.الوعي الاجتماعي: إدراك الإنسان لموقعه في مجتمعه، ولطبيعة العلاقات المحيطة به، وللبُنى التي تتحكم في مصيره.

بدون هذا الوعي، يصبح الإنسان قابلاً للتوجيه، سهل الانقياد، خانعًا ولو ظن أنه حر.

اقرأ أيضا : الطريق إلى بئر السبع الانتماء والهوية

الاستحمار – صناعة الجهل

الجزء الأخطر في الكتاب، وربما الأكثر إثارة للغضب والدهشة، هو حديثه عن “الاستحمار”.”الاستحمار ليس الجهل فقط، بل هو تجهيل ممنهج.” — شريعتي

يشرح شريعتي أن الاستحمار نوعان:

1. الاستحمار المباشر: كأن تمنع الناس من التعلم، وتفرض الجهل، وتحرمهم من السؤال.

2. الاستحمار غير المباشر: وهو الأخطر، حين تُشغل الناس بقضايا هامشية، سطحية، تافهة، لتُبعدهم عن التفكير في حقوقهم، عن نقد الواقع، عن فهم أدوات القمع التي تقيّدهم.

الاستحمار غير المباشر يتجلى اليوم في صور متعددة: من إعلام يُشغل الناس بالتفاهات، إلى مناهج تعليمية تُخرج أجيالًا تحفظ ولا تفهم، إلى نظم دينية تسوق الإنسان لعبادة الطقوس بدلًا من إعمال العقل.

“الاستحمار هو أن تُعطى حريتك في صورة احتفال، وتُسلب حقيقتها في صورة قانون.” — شريعتي

الدين كأداة للنباهة أو الاستحمار

من أكثر المواضيع إثارة في الكتاب، موقف شريعتي من الدين. فهو مؤمن عميق، لكنه يهاجم الاستخدام المزيف للدين ، فهو يرى أن: “الدين في جوهره دعوة للحرية والوعي، لكنه حين يُفرغ من محتواه، يُستخدم كأداة للاستحمار.”

حين يُقدَّم الدين كخضوع مطلق، كاستسلام للمجهول، كجمود في الطقوس، دون فهم ولا روح، فإنما هو تحوّل من قوة للنباهة إلى وسيلة للسيطرة.

لكن شريعتي لا يُهاجم الدين نفسه، بل يميّز بين:ا

لدين الأصيل: دعوة للثورة، للتغيير، لتحرير الإنسان.

الدين المزيف: أداة في يد السلطة لإبقاء الشعوب خانعة.

أمثلة تاريخية على الاستحمار

يضرب شريعتي أمثلة من التاريخ الإسلامي وغيره، حيث تم تهميش العقل وإقصاء الأسئلة، وإشغال الناس بصراعات سطحية، بينما تم تثبيت أركان الاستبداد.

ويشير إلى أن بعض الحكومات لم تمنع الدين، لكنها دعمت نوعًا معينًا منه، نوعًا يخدر الناس، يشغلهم بالآخرة لينسوا حقوقهم في الدنيا، يُقنِعهم أن الفقر قدر، وأن الطغيان امتحان، وأن الصمت عبادة.

اقرأ أيضا : غربة الياسمين: الغربة بين الهوية والانتماء

الاستحمار المعاصر – صناعة الاستهلاك والسطحية

لو عاش شريعتي اليوم، لوجد أن رؤيته عن الاستحمار قد تحققت بأشكال جديدة ،ففي عصر “الإنترنت” و”السوشال ميديا”، أصبحت آليات صرف الناس عن النباهة أكثر تطورًا:

١.إغراق العقل في الصور والمحتوى الفارغ.

٢.تقديس المشاهير وتهميش المفكرين.

٣.ثقافة الردود السريعة بدلًا من الحوار العميق.

“حين تُستبدل الثقافة بالترفيه، والمعرفة بالتقليد، يتحوّل الإنسان إلى مستهلك، لا إلى مفكر.”لماذا نحتاج هذا الكتاب اليوم؟

لماذا نحتاج هذا الكتاب اليوم

لأننا نعيش في زمن اللايقين، زمن تُفرض فيه علينا خيارات جاهزة، وتُشكّل فيه وعينا أدوات خفية ، لأننا بحاجة إلى أن نُعيد امتلاك عقلنا.

هذا الكتاب ليس للقراءة المريحة، بل للقراءة المؤلمة، كتاب يُقلقك، يُشككك، يُخرجك من منطقة الراحة.

“لا شيء أخطر من إنسان يعتقد أنه يعرف، بينما هو مستحمر.” — شريعتي

إنّ القارئ المعاصر لهذا الكتاب سيجد نفسه بين فكرتين متصارعتين: الأولى تدفعه للشعور بالعجز أمام منظومات الاستحمار المعاصرة، والثانية توقظه على مسؤولية فردية تبدأ من وعي الذات ، فشريعتي لا يدعونا فقط إلى الثورة على الأنظمة أو المؤسسات، بل إلى ثورة داخلية أعمق، تبدأ من تحرير عقولنا من القيود غير المرئية.

اللافت أن الكاتب لم يضع نفسه في مقام الواعظ أو المعلم، بل خاطب القارئ كرفيق في رحلة الوعي، وهذا ما يجعل الكتاب رغم لغته المكثفة، يشعر القارئ أن كل جملة فيه كتبت له شخصيًا، إنه كتاب يضعك أمام مرآة فكرك، ويترك لك حرية القرار: أن تبقى متفرجًا… أم تبدأ بالتغيير.

في زمن تنتشر فيه المعلومات أكثر من الحقيقة، وتختلط فيه الحرية بالضوضاء، يبقى هذا الكتاب صوتًا نقيًا للتمرد الصامت، الصادق، الملتزم ، وكل من يقرأه بإمعان، لا بد أن يخرج منه بأسئلة جديدة، تشكل بداية يقظته، لا نهايتها.

اقرأ أيضا : “ياسمين العودة” حينما يتحول السرد إلى وطن

اقتباسات

1.”ما أكثر الذين يتحدثون عن الحرية، لكن ما أقلّ من يدفع ثمنها.”

2.”الإنسان الذي لا يفكر، لا يخطئ. لكنه أيضًا لا يتقدم.”

3.”الاستحمار هو أن تخلق جيلًا يُطيع دون أن يُفكر، ويصفّق دون أن يفهم.”

4.”علّمني ديني أن أكون حرًّا، لكنهم علّموني كيف أركع باسم الدين!”

5.”الاستحمار هو أن تُربّى على الطاعة لا على الفهم.”

6.”التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، بل يزوره المستحمرون.”

7.”من لا يملك وعيًا، سيُقاد حتى لو حمل ألف شهادة.”

8.”الدين لا يعني أن تُصلي فقط، بل أن تعرف لماذا تعيش.”

اقرأ أيضا :أبيض ياسمين ،أسود قدر .

نقد وتحليل

أسلوب شريعتي في هذا الكتاب:مباشر، مكثف، صادم. لا يستخدم المجاز كثيرًا، بل يعتمد على الصدمة الفكرية.يلجأ إلى الأمثلة التاريخية والدينية لتقريب الأفكار، مما يجعل كتابه مفهومًا لدى جمهور واسع.

يحترم القارئ، لا يُملّكه الإجابات الجاهزة، بل يدفعه للتفكير.بعض القُرّاء قد يرون أن الكتاب متشائم أو سلبي، لكن الحقيقة أنه كتاب مقاوم، يدعونا ألا نقبل الواقع كما هو، بل نعيد النظر فيه.

الرسالة العميقة للكتاب

إن رسالة “النباهة والاستحمار” تتلخّص في عبارة واحدة: “لا تسمح لأحد أن يفكر بدلًا عنك.”الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. والاستحمار ليس جهلًا، بل خيانة للعقل.

التقييم النهائي للكتاب

اسم الكتاب: النباهة والاستحمار

اسم الكاتب: د. علي شريعتي

عدد الصفحات: تقريبًا 80 صفحة

اللغة: العربية (مترجمة من الفارسية)

الموضوع: فكر اجتماعي، نقد ديني وسياسيالفئة المناسبة: الشباب، طلاب الجامعات، المهتمون بالوعي الديني والاجتماعي

التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ 5/5

في النهاية، “النباهة والاستحمار” ليس كتابًا يُقرأ وينتهي، بل يُقرأ ويبدأ بعده شيء جديد فيك، ربما لن تنظر للعالم بالطريقة نفسها بعده. وربما، وهذا هو الأهم، تبدأ في التساؤل: هل أنا نبيه… أم مستحمر؟

السابق
الطريق إلى بئر السبع الانتماء والهوية
التالي
أسعد امرأة في العالم تأمّل في قلب الأنثى