اقرأ معنا

الطريق إلى بئر السبع الانتماء والهوية

في عمق التاريخ العربي الفلسطيني، تتناثر الحكايات كالرماد في الريح. بعضها يُكتب بالدم، وبعضها بالحنين، وبعضها بكليهما معًا.

“الطريق إلى بئر السبع” ليست مجرد رواية، بل هي صرخة وجود، ومأساة شعب، ومرآة لذاكرة لا تموت، من خلال نص روائي شديد الإنسانية والالتصاق بالواقع، تقدم لنا الرواية بانوراما نفسية واجتماعية وسياسية لقضية فلسطين، ولكن من زاوية فريدة، حيث يصبح الطريق رمزًا للضياع والانتماء، وللشتات والوطن في آن.

في عام 1963، نشرت الكاتبة والناشطة البريطانية إيثيل مانين روايتها “الطريق إلى بئر السبع” كإجابة أدبية على رواية “الخروج” (Exodus) للكاتب الأمريكي ليون أوريس، التي قدمت سردًا صهيونيًا لتأسيس دولة إسرائيل.

جاءت رواية مانين لتُسلط الضوء على الجانب الفلسطيني من القصة، موثقةً مأساة التهجير والشتات التي تعرض لها الشعب الفلسطيني عام 1948، من خلال سردٍ إنساني عميق يُبرز معاناة الفرد والأسرة تحت وطأة الاحتلال. الرواية جميلة جدا ومؤلمة ، استمتعت جدا بها ، وبكيت .

الرواية ثلاثة فصول الفصل الأول أجملها وأكثرها ألما ، نهاية الرواية محزنة جدا ، في بعض الأحيان ندفع الآخرين إلى الهاوية دون شعورا منا .

تطرقت الطريق إلى بئر السبع كيف تم تهجير الفلسطنيين من بيوتهم ، كيف جعلوهم يتجرعون المرار والحزن بطريقة مفجعة.

اقرأ أيضا : رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة

عن الكاتبة

ولدت إيثيل مانين في لندن عام 1900، وبرزت ككاتبة وناشطة سياسية ذات ميول اشتراكية وإنسانية.

خلال مسيرتها الأدبية، أبدت اهتمامًا متزايدًا بالقضية الفلسطينية، خاصة بعد زيارتها لغزة في أوائل الستينيات، حيث شاهدت بأم عينها معاناة اللاجئين الفلسطينيين.

تأثرت مانين بشدة بما رأته، مما دفعها لكتابة “الطريق إلى بئر السبع” لتكون صوتًا للضحايا الذين غالبًا ما يتم تجاهلهم في السرد الغربي.

ملخص الرواية

تدور أحداث الرواية حول عائلة منصور، وهي عائلة فلسطينية مسيحية تُجبر على الفرار من مدينة اللد بعد اجتياحها من قبل الميليشيات الصهيونية عام 1948.

تتشتت العائلة بين الأردن وإنجلترا، حيث يكبر الابن أنطون في لندن، محاولًا التوفيق بين هويته الفلسطينية وتجربته في المنفى. يقرر أنطون العودة إلى فلسطين، في رحلة محفوفة بالمخاطر والألم، تنتهي بمقتله على يد الجنود الإسرائيليين أثناء محاولته الوصول إلى بئر السبع.

الرمزية

تمثل “بئر السبع” في الرواية أكثر من مجرد مدينة؛ إنها رمز للوطن المسلوب، والهوية المفقودة، والحلم الذي يسعى اللاجئون لتحقيقه رغم كل الصعاب. الطريق إليها يُجسد رحلة العودة إلى الذات، ومحاولة استعادة الكرامة والحق المسلوب.

اقتباسات

1.”لم أكن أعرف أن الطريق إلى بئر السبع يمر من عواصم الخذلان، من أنفاق القهر، من حواجز اللغة، ومن جدران العالم الذي نسي فلسطين في أرشيفه القديم.”

2.”كلما اقتربنا من بئر السبع، شعرت أني أقترب من ذاتي، من جسدي الممزق الذي تركته خلف الحدود.”

3.” ولكن المرء لا يستطيع أن يكون على يقين من أمر العودة ، فما أن تغادر مكانا ما حتى تجد من الصعب جدا في بعض الأحيان أن تعود إليه .”

اقرأ أيضا : زوجات ضائعات المرأة والخيانة

الاستقبال والتأثير

حظيت الرواية بترحيب واسع في العالم العربي، حيث تُرجمت إلى العربية على يد الدكتور نظمي لوقا، الذي أضفى على الترجمة طابعًا أدبيًا مميزًا.

أشاد القراء العرب بقدرة مانين على نقل معاناة الفلسطينيين بصدق وتعاطف، رغم كونها كاتبة بريطانية. كما أثارت الرواية اهتمامًا في الأوساط الثقافية، حيث نُظر إليها كعمل أدبي يُسهم في توثيق النكبة الفلسطينية من منظور غربي متعاطف.

تحليل الشخصيات

1. جورج: صوت العقل المسالم في زمن البنادق

الرمز: يمثل جورج الفلسطيني المثقف، الذي يؤمن بالحوار، ويحاول أن يتمسك بأهداب الحياة الطبيعية وسط عالم ينهار.

التحليل:جورج شخصية مُثقلة بالحكمة والتجربة. يعمل في مهنة نبيلة، ويحاول الحفاظ على استقرار أسرته رغم العواصف السياسية التي تحيط به. هو مسيحي فلسطيني، ومع ذلك فإن معاناته لم تختلف عن أي فلسطيني آخر من أي دين أو طائفة.ما يميز جورج هو تعلّقه بالحياة: بالبيت، بالزوجة، بالابن، بالتعليم، بالاستقرار. لكنه يصطدم بحقيقة قاسية: أن كل هذا قد يضيع في لحظة، حين تكون الأرض ذاتها مهددة بالاغتصاب.

يحمل جورج في داخله صراعًا داخليًا هائلًا: بين رفض العنف وبين إدراكه أن الهدوء لا ينقذ وطنًا يُسلَب أمام عينيه. وفي كل لحظة من الرواية، نشعر أنه يصرخ بصوت مكتوم: “أليس لنا حق في أن نعيش؟ فقط أن نعيش؟”

2. أنطون: الابن الباحث عن وطن وهوية

الرمز: يمثل أنطون الجيل الفلسطيني الجديد الذي وُلد في العاصفة، ولا يعرف إلا وجعها.

التحليل:أنطون شاب يافع ينتمي لجيل لم يعرف فلسطين الكاملة، بل عرف فقط ظلّها الممزق، وذاكرتها الشاحبة في أحاديث الأهل وصور المفقودين.

هذا الجيل لم يرَ الأرض، بل رأى الخيام. لم يعش الأمن، بل عاش اللجوء. لذلك، فإن مواقفه الحادة ليست ترفًا فكريًا، بل نتيجة مباشرة لاغتراب وجودي.هو مندفع، غاضب، سريع الانفعال، يرى أن الكلمات لم تعد تكفي. يمثل الشباب الفلسطيني الثائر الذي لم يجد سبيلاً إلا المقاومة، حتى وإن اختلف مع والده جورج.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فإن حبه لوطنه ينبض في كل تصرف، وكل جملة، وكل قرار مصيري يتخذه.أنطون هو الحلم الفلسطيني حين يتكلم بلسان الغضب.

3. زوجة جورج: صوت الأمومة والحنان في زمن الخراب

الرمز: تمثل الأم الفلسطينية التي تحاول أن تبني عشًا حتى ولو تحت النار.

التحليل:زوجة جورج شخصية صامتة أحيانًا، لكنها ذات أثر بالغ في كل المشاهد. هي صورة المرأة التي تحارب لا بالبندقية، بل بالصبر. تحتضن العائلة، ترعى الأمل في قلوب أبنائها، وتتمسك بالروتين كمن يتمسك بالقشة في بحرٍ هائج.

في لحظات كثيرة، كانت الزوجة تحاول أن تخلق “وطنًا صغيرًا” داخل البيت، وكأنها تحاول تعويض الفقد الأكبر. إنها ترمز للأرض، للأمان، للجذور التي لا تُقتلع بسهولة.

4. وليد: الصديق الثوري الحالم

الرمز: يمثل وليد الشباب الفلسطيني المنتمي للتيار القومي أو اليساري، المشتعل بالحلم الكبير عن الحرية والعدالة الاجتماعية.

التحليل:وليد شخصية جذابة، ليس فقط بمواقفه السياسية، بل أيضًا بحضوره الإنساني.

يرفض الواقع المذل، ويحاول أن يزرع في أنطون ومَن حوله بذور الثورة، الإيمان بالتغيير، والإصرار على أن فلسطين لن تُنسى.هو نوع من الشخصيات التي تشبه جذوة نار في الظلام، تُضيء الوعي لكنها قد تحترق أيضًا.

يمثل الصراع الفكري بين من يسير في طريق المقاومة ومن ينتظر الحل السياسي.

5. أمين: النقيض الفلسفي لوليد

الرمز: يمثل أمين تيارًا أكثر تحفظًا أو تشاؤمًا، ربما الأقرب إلى الانسحاب الهادئ من صخب الثورة.

التحليل:أمين شخصية معقدة، لا يخلو حضورها من التردد والحذر. يبدو أحيانًا كصوت الضمير القلق، أو العقلاني الذي يخشى التهور.

لكنه في الوقت نفسه، يعكس مشاعر الانهزام المؤلمة التي تصيب البعض بعد النكبة: شعور بالفقد، بالعجز، وربما بعدم جدوى الحلم.هو مرآة لانكسار بعض الفلسطينيين الذين لم يجدوا في الثورة خلاصًا، بل وجدوا فيها بابًا إلى موت جديد لا يمنحهم الحياة.

6. الشخصيات اليهودية في الرواية:

إيثيل مانين لم تقع في فخ التعميم.

على العكس، كانت حريصة على تصوير بعض الشخصيات اليهودية ككائنات إنسانية متفاوتة:

الصهيوني المتطرف: يظهر كمغتصب لا يرحم، يمارس العنف باسم فكرة متطرفة لا أساس أخلاقي لها.

اليهودي المتعاطف: شخصية نادرة ولكنها موجودة، تعكس أن الشر لا دين له، وكذلك الخير.

هذه الشخصيات تساهم في بناء سردية متوازنة، تظهر أن الصراع ليس دينيًا بل سياسي، استعمار في مواجهة أصحاب أرض.

في “الطريق إلى بئر السبع”، لا نجد شخصيات مسطحة أو شعاراتية. بل نواجه بشرًا من لحم ودم، من خوف وحلم، من حب وفقد. كل شخصية تعبر عن طبقة من طبقات المجتمع الفلسطيني والعربي بعد النكبة: الأب، الأم، الابن، الثائر، المنكسر، الحالم، الخائف…

تُعد “الطريق إلى بئر السبع” شهادة أدبية نادرة على النكبة الفلسطينية، كتبتها كاتبة بريطانية بضمير حي وإحساس إنساني عميق.

من خلال هذه الرواية، قدمت إيثيل مانين صوتًا للضحايا الذين غالبًا ما يُهمشون في السرد الغربي، مسلطةً الضوء على معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال والشتات.

إنها دعوة للتفكر في العدالة والإنسانية، وتأكيد على أن الأدب يمكن أن يكون أداة قوية للمقاومة والتوثيق.

الطريق إلى بئر السبع ليست فقط رواية، بل مرآة لمرحلة فاصلة في تاريخ أمة. في كل صفحة منها، كانت إيثل مانين تقول: “أنا مع الحق، ولو كان ضد قومي”.

إنها رواية تفتح القلب والعقل، وتعيد تشكيل صورة النكبة لا كخبر في الجريدة، بل كصرخة في الضمير.

من يقرأها، لن يخرج منها كما دخل، بل سيحمل في قلبه شيئا من أنطون ، ومن فلسطين، ومن الألم الذي لم يزل قائمًا حتى اليوم.

بالنهاية أنصح بهذه الرواية .

السابق
دركوش إدلب… سحر الطبيعة على ضفاف العاصي