اقرأ معنا

أنبياء كذبة الهروب من أسر الأصوات المقدسة

حين تمسكين كتاب أنبياء كذبة للكاتب كريم الشاذلي، لا تتوقعين أن تكوني على موعد مع مراجعة فكرية صاخبة أو مادة علمية معقدة، لكنك في العمق تفتحين على نفسك بوابة حقيقية نحو مراجعة مفاهيمك، نحو وضع علامات استفهام كثيرة حول من كنت تستمعين إليهم، وتؤمنين بكلماتهم، وتقلدين تصرفاتهم دون أن تسألي نفسك سؤالًا بسيطًا، لماذا.

الكتاب يبدو بسيطًا في شكله، بعدد صفحاته القليل نسبيًا، وبلغته السلسة القريبة من القلب، لكنه يحمل في طيّاته سؤالًا ثقيلًا، سؤالًا يتسلل إليك دون مقدمات، من الذي أقنعك أن صوتك ليس كافيًا، من الذي زعزع يقينك بذاتك، ومن الذي وضع نفسه نبيًا عليك دون أن يعلن ذلك صراحة.

في هذا الكتاب، لا يقصد الشاذلي مهاجمة أحد بعينه، بل يتحدث عن نماذج نعيشها جميعًا، عن أولئك الذين يحضرون في حياتنا على هيئة مرشدين، ناصحين، حكماء، مؤثرين، أهل، أصدقاء، أزواج، آباء، أو حتى كُتّاب، ثم نمنحهم إذنًا مفتوحًا بالتسلل إلى قراراتنا، والتدخل في مشاعرنا، وتوجيه وعينا حسب تصوراتهم.

اقرأ أيضا :أسعد امرأة في العالم تأمّل في قلب الأنثى

كتابًا للإفاقة

كتاب أنبياء كذبة لا يضيف إليك معلومات جديدة، لكنه يوقظ تلك التي غُيّبت داخلك، إنه لا يسعى لأن يعبّر عن أفكار لم تسمعي بها من قبل، لكنه يقولها بلغة واضحة، صادقة، مباشرة، وبنبرة تشبه صوتك الداخلي الذي لطالما تم تهميشه لصالح أصوات أعلى، وأكثر سلطة، وأشد تأثيرًا.

هو ليس دليلًا معرفيًا بقدر ما هو مرآة، مرآة تجعلك تتأملين انعكاسك من جديد، وتكتشفين كم من قراراتك لم تكن في حقيقتها نابعة من وعيك، بل من تكرار ما قيل لك، ومن الخوف من التمرّد، ومن الإيمان الساذج بأن من يُحبك لا يمكن أن يضللك.

كريم الشاذلي يكتب هنا بروح الناصح الهادئ، لا يصرخ، لا يتهم، لا يجرح، لكنه يحرك شيئًا ما في داخلك، شيئًا قد يُزعجك، لكنه لن يؤذيك، بل على العكس، سيساعدك على التحرر من سلاسل غير مرئية كنت تجرّينها دون أن تنتبهي.

صوت الكاتب

ميزة الشاذلي في هذا الكتاب تحديدًا، أنه لم يضع نفسه في موضع المعلم الذي يعرف أكثر منك، ولم يحاول أن يُظهر تميّزه عليك، بل اختار أن يكون قريبًا، بسيطًا، عاديًا، وهذا ما جعل صوته يصل دون مقاومة، ويخترق الحواجز النفسية التي كثيرًا ما نضعها بيننا وبين الكتّاب أو المتحدثين.

هو لا يحاكمك على اختياراتك السابقة، بل يقول لك ببساطة، كلنا وقعنا في هذا الفخ، كلنا صدّقنا يومًا من لا يستحق، كلنا أعطينا ثقتنا لمن لم يكن أهلًا لها، والمهم الآن ليس البكاء على الماضي، بل استعادة زمام الأمور، استعادة صوتك الداخلي، والبدء من جديد.

أسلوبه لا يتعالى، لا يُخيف، ولا يدفعك للشعور بالذنب، بل يشبه حديثًا وديًا مع صديق جلس معك في زاوية هادئة، وسألك بصوت خافت، هل أنتِ متأكدة أن هذا هو الطريق الذي ترغبين في مواصلته، أم أنكِ فقط تمشين فيه لأنهم قالوا لك إنه الطريق الصحيح.

الرأي إلى قيد

نحن لا نُخلق عبيدًا للناس، لكننا نتحوّل إلى ذلك حين نعجز عن تمييز الخط الفاصل بين النصيحة وبين السيطرة، بين التوجيه الصادق وبين محاولة القولبة، وحين نسمح لرأي الآخر أن يصبح قانونًا نحاسب أنفسنا عليه، عندها نكون قد دخلنا دائرة الأنبياء الكذبة من أوسع أبوابها.

الرأي في طبيعته مرن، يحتمل الصواب والخطأ، يُطرح كي يُناقش، لا كي يُعبد، لكننا حين نُعلي من شأن الأشخاص إلى درجة التقديس، فإننا نحمل كل ما يقولونه على محمل الحقيقة، ونتوقف عن التفكير، ونكتفي بتكرار ما نسمع لأنهم قالوه.

في لحظة ما، يصبح صوتهم أعلى من صوت ضميرك، ويغدو التراجع عن أفكارهم بمثابة الخيانة، لا لأنكِ فعلًا مقتنعة بأنهم على حق، بل لأنك صرت ترينهم أوثق من وعيك، وأعلم بمصلحتك منك، وهنا تمامًا يبدأ القيد في التشكل.

الخطر الخفي

المشكلة ليست في الأصوات العالية، بل في تلك التي نثق بها أكثر من اللازم، تلك التي نتلقاها دون حذر، دون مناقشة، دون فلترة، لأنها جاءت من فم محبوب، من شيخ جليل، من كاتب مؤثر، من أم، من زوج، من صديق طفولة.

الخطر ليس في الصوت ذاته، بل في الباب الذي نتركه مفتوحًا على مصراعيه، يدخلون منه كما يشاؤون، يُعدّلون قناعاتنا، يوجهون اختياراتنا، يعلّقون رضاهم على التزامنا بتعليماتهم، وشيئًا فشيئًا، يصبح وجودهم مرتبطًا بخضوعنا، لا بشخصيتنا الحقيقية.

الكاتب لا يدعونا هنا إلى الشك المرضي، ولا إلى قطع العلاقات مع من نحب، بل إلى شيء أكثر نضجًا وهدوءًا، إلى أن نحتفظ بحقنا في مراجعة كل ما يُقال لنا، حتى لو قيل بمحبة، إلى أن نعيد ترتيب علاقتنا مع الآخر بناءً على وعينا، لا على شعورنا بالواجب أو الخوف.

اقرأ أيضا : حيونة الإنسان: كيف نصبح جلادين بلا وعي

النصيحة إلى عبودية

ليس كل ناصح نبيًا، وليس كل من تحدث بلغة العقل يستحق أن يصبح مرجعًا في حياتك، فهناك فرق بين من يمنحك ضوءًا تتبعيه، ومن يشعل النار تحت قدميك كي تسيري في الاتجاه الذي يراه مناسبًا لك.

النصيحة تصبح عبودية فكر عندما تُقدّم لك بسلطة، حين يُقال لك إن رفضها يعني قلة أدب، أو نقص إيمان، أو خروج عن الجماعة، حين يتحوّل صوت الناصح إلى قاضٍ، وتتحولين أنتِ إلى متّهمة، تحاولين أن تدافع عن قرارك بارتباك وخوف.

الكاتب يلحّ على فكرة مهمة جدًا، وهي أن من يُحبك حقًا، لا يُرعبك، لا يضغط عليك باسم المصلحة، لا يحرجك بتذكيرك كم تعب لأجلك، بل يفسح لك مساحة لتختاري بحرية، حتى لو اختَلفتِ عنه، لأنه يرى قوتك، لا ضعْفك، ويؤمن بك، لا بسلطته عليك.

اقتباسات

1.”الأنبياء الكذبة لا يدخلون حياتك بالقوة، بل بضعفك أنت، بترددك، بحاجتك لأن يُخبرك أحدهم كيف تعيش.”

2.”لا أحد يعرف الطريق الأفضل لك أكثر منك، فقط إن أنصتَّ لداخلك، ستسمعه بوضوح.”

3.”المشكلة ليست في الناس، بل في عجزنا عن قول: لا، حين يجب أن تُقال.”

4.”في كل مرة تخالف صوتك الداخلي لترضي أحدهم، تفقد جزءًا من ذاتك.”

هذه العبارات تختصر روح الكتاب، وتعبّر عن رسالته العميقة، أنت حر، لكنك نسيت ذلك، وأنت قوي، لكنك صدّقت أن قوتك خطر، وأنت تعرف، لكنك سكتّ كي لا تغضب من لا يعرف.

لماذا تقرأين الكتاب

في زمن صار التلقين فيه هو اللغة الأقوى، يأتي هذا الكتاب ليقول لك بوضوح، توقفي، فكّري، اسألي، اختاري بنفسك، أخطئي إن لزم الأمر، تعلّمي، أعيدي المحاولة، لكن لا تسمحي لأحد أن يدّعي النبوة في حياتك، لا تحت اسم الدين، ولا الخبرة، ولا الحب، ولا الحكمة.

ربما هو كتاب صغير في حجمه، لكنه ثقيل في أثره، يحمل داخله دعوة للصحوة، للخروج من ظلمة التقليد إلى نور الوعي، من استلاب الفكر إلى حريّة النظر، من صمت الخضوع إلى صوت الذات الذي آن له أن يُسمع.

هو كتاب يُقرأ على مهل، لأن كل جملة فيه تحتمل التوقف، والمراجعة، والتأمل، بل والكتابة على الهامش.

📘 اسم الكتاب: أنبياء كذبة

✍️ الكاتب: كريم الشاذلي

📄 عدد الصفحات: 200 صفحة

⭐ التقييم: 3 من 5

👥 الفئة المناسبة: كل من يشعر أن صوته الداخلي تلاشى وسط ضجيج التوجيهات

📚 التصنيف: وعي ذاتي – تنمية فكرية – مراجعة علاقات.

السابق
سد الدريكيش في طرطوس… الوجهة الرائعة لعشاق الطبيعة والهدوء
التالي
استكشف مصيف رأس البسيط: جوهرة السياحة في الساحل السوري