تُعتبر حرفة النحاسيات في سوريا من أقدم الحرف اليدوية التي شكّلت الهوية الثقافية والحضارية للسوريين، فهي ليست مجرد مهنة، بل فنّ متوارث يجسّد الإبداع والدقة في التعامل مع أحد أقدم المعادن المعروفة للإنسان.
من أسواق دمشق العريقة إلى ورش حلب وحماة ظل صوت المطرقة على النحاس رمزًا لاستمرارية الجمال وسط تغيرات الزمن…..
أكمل معنا هذا المقال لتعرف أكثر عن هذه الحرفة التراثية.
Contents
تاريخ حرفة النحاسيات في سوريا

تُعَدّ حرفة النحاسيات في سوريا من أقدم الحرف المعدنية في المشرق، إذ تعود جذورها إلى العصر النحاسي (الألف الثالث قبل الميلاد) حين بدأ الإنسان السوري بصهر النحاس واستخدامه في الأدوات المنزلية والزينة والأسلحة.
وقد كشفت اللقى الأثرية في مواقع إبلا وماري وأوغاريت ورأس ابن هاني عن أدوات وأوانٍ نحاسية تؤكد التطور المبكر لصناعة المعادن في المنطقة ودورها في التجارة مع الممالك المجاورة في الشرق الأدنى القديم.
ومع مرور الزمن تطورت تقنيات الصناعة من الصهر البسيط إلى الطرق، والنقش، والتطعيم بالفضة والذهب، لتصبح صناعة النحاس جزءًا من الحياة الاقتصادية والثقافية السورية.
وفي العصور الأموية والأيوبية والمملوكية بلغت هذه الحرفة ذروة ازدهارها في دمشق وحلب وحماة، إذ أبدع الحرفيون في إنتاج الأواني والأباريق والمباخر المطعّمة بالفضة والمرصّعة بالنقوش العربية والزخارف الهندسية.
كما ظهرت أسواق متخصصة مثل سوق النحاسين في دمشق القديمة وخان النحاسين في حلب، والتي أصبحت مراكز لتوارث المهنة وتبادل الخبرات الحرفية عبر الأجيال.
وفي العهد العثماني شهدت الحرفة توسعًا كبيرًا بفضل ازدهار التجارة والحياة الحضرية وانتشرت الورش في الأسواق التقليدية، حيث كان النحاس الدمشقي يُصدَّر إلى مصر وتركيا وفارس كسلعة فاخرة تُستخدم في القصور والمناسبات الرسمية.
إلا أن القرن العشرين حمل معه تحديات جديدة، إذ بدأت المنتجات الصناعية تنافس الأعمال اليدوية ما أدى إلى تراجع الإقبال على الصناعات التقليدية.
ومع ذلك بقيت الورش الدمشقية والحلبية تحافظ على أساليبها الأصيلة، مستخدمة الأدوات ذاتها التي توارثها الحرفيون منذ قرون.
مراحل حرفة النحاسيات في سوريا وأدوات الحرفيين

تُعدّ حرفة النحاسيات في سوريا من أكثر الحرف اليدوية تعقيدًا ودقة، إذ تعتمد على سلسلة من المراحل المتتابعة التي تتطلب مهارة عالية وصبرًا طويلًا، ويُنجز الحرفي عمله بالكامل تقريبًا باليد مستخدمًا أدوات بسيطة توارثها عن الأجيال السابقة، مما يمنح كل قطعة نحاسية طابعًا فريدًا لا يمكن تكراره آليًا.
المرحلة الأولى: اختيار نوع النحاس وتحضيره
يبدأ العمل باختيار نوع النحاس المناسب وفقًا لغرض القطعة، حيث يُستخدم النحاس الأحمر عادًة لصناعة القطع الفنية والزخرفية مثل الصواني والمباخر والفوانيس، بينما يُستخدم النحاس الأصفر لصناعة الأدوات المنزلية كالأواني وأباريق الماء وأوعية الطهي.
يُشترى النحاس على شكل صفائح تُقطع بالمقص اليدوي إلى أحجام تناسب التصميم المطلوب، ثم تُسخَّن الصفائح على موقد فحمي حتى تزداد ليونتها وتُغمر بعدها بالماء لتبريدها ومنع تشققها أثناء الطرق.
هذه العملية تُعرف في اللغة الحرفية باسم “التليين” أو “التخمير”، وهي من أهم المراحل لضمان مرونة المعدن قبل تشكيله.
المرحلة الثانية: التشكيل والطرق
بعد تسخين الصفائح يبدأ الحرفي بمرحلة الطرق والتشكيل وهي العملية التي تُحوَّل فيها الصفيحة النحاسية المسطّحة إلى شكل ثلاثي الأبعاد.
حيث يضع الحرفي الصفيحة فوق السندان وهو كتلة حديدية تُثبَّت على طاولة خشبية ويبدأ بطرقها بالمطرقة اليدوية بحركات متناسقة ودقيقة.، ويتطلب هذا العمل مهارة كبيرة لأن أي ضربة خاطئة قد تُفسد شكل القطعة وتُقسّم هذه المرحلة إلى:
1_ الطرق الخشن: لتشكيل الشكل الأساسي (كالوعاء أو الإبريق).
2_ الطرق الدقيق: لتنعيم السطح وضبط الانحناءات والزوايا.
وفي بعض الورش التقليدية في سوق النحاسين بدمشق القديمة يمكن سماع الإيقاع المنتظم لضربات المطارق، وهو ما يُعرف بين الحرفيين بـ”إيقاع النحاس” الذي يشكّل جزءًا من هوية السوق الصوتية.
المرحلة الثالثة: النقش والزخرفة
بعد تشكيل القطعة تبدأ مرحلة النقش اليدوي، وهي المرحلة الأكثر فنية في صناعة النحاسيات، حيث يُثبّت الحرفي القطعة على منضدة جلدية أو رملية لتبقى ثابتة أثناء العمل، ثم يستخدم أدوات دقيقة مثل الإزميل لقص أو حفر الزخارف والمطرقة الصغيرة لطرق الإزميل برفق وإبراز النقوش، بالإضافة إلى إبرة النقش (السنك) لرسم الخطوط الأولية بدقة قبل الحفر.
كما تتنوع النقوش بين الزخارف النباتية والهندسية والآيات القرآنية والأقوال المأثورة وتُستوحى غالبًا من الطراز الإسلامي أو الدمشقي الكلاسيكي.
أما عملية التطعيم بالفضة أو الذهب فتُجرى بإدخال خيوط معدنية دقيقة داخل الأخاديد المنقوشة، ثم تُطرق لتثبيتها وتُعرف هذه التقنية باسم الدمسقنة نسبًة إلى دمشق التي اشتهرت بها منذ القرن الثالث عشر الميلادي
المرحلة الرابعة: التنظيف والتلميع
بعد الانتهاء من النقش تُغمر القطعة في محلول مائي يحتوي على حمض خفيف أو مسحوق تنظيف تقليدي لإزالة آثار السخام والأكسدة، ثم تجفيف وتُلمّع باستخدام فرشاة ناعمة أو قطعة قماش مع مادة الصقل (المَعجون) حتى يظهر بريق النحاس ولمعانه المميز.
علمًا أن بعض الحرفيين يضيفون طبقة من الورنيش الشفاف لحماية النقوش من التآكل والحفاظ على اللون.
المرحلة الخامسة: العرض أو التصدير
بعد التلميع تُجهَّز القطع النحاسية إمّا للاستخدام المحلي خاصة في المنازل والمطاعم والفنادق ذات الطابع الشرقي أو للتصدير إلى الخارج.
وتُعدّ الأسواق الدمشقية والحلبية من أهم مراكز بيع وتوزيع هذه التحف، حيث يحرص السياح على اقتناء القطع اليدوية كتذكارات تعبّر عن روح التراث السوري.
اقرأ أيضًا: البوظة العربية في سوريا: حلاوة تُضرب بالقلب قبل المِدَقّ
الأسواق والمراكز المشهورة بصناعة النحاسيات في سوريا

تُعدّ الأسواق التقليدية من أهم الحواضن التاريخية لـ حرفة النحاسيات في سوريا، حيث لا تقتصر وظيفتها على البيع والشراء فحسب، بل تمثل فضاءات اجتماعية وثقافية تتوارث فيها الأجيال فنون الصياغة والنقش والتطعيم.
حيث يُعتبر سوق النحاسين في دمشق القديمة أقدم وأشهر مركز لصناعة النحاسيات في البلاد، ويقع قرب سوق مدحت باشا ويمتد بمحاذاة الجامع الأموي الكبير.
ويعود تأسيسه إلى العهد المملوكي (القرن الرابع عشر الميلادي)، وظلّ منذ ذلك الوقت القلب النابض للحرفة الدمشقية، حيث تنتشر على جانبيه الورش الصغيرة التي تمتلئ بأصوات المطارق وإيقاعات الطرق، فيصنع الحرفيون الأواني والأباريق والفوانيس والمباخر يدويًا باستخدام الأدوات التقليدية ذاتها التي استُخدمت منذ قرون.
ويمتاز النحاس الدمشقي بزخارفه الدقيقة المذهّبة والفضّية، وبأسلوب الدمسقنة (Damascening) الذي جعل منتجات دمشق تُصدّر إلى تركيا ومصر وبلاد المغرب منذ العصور الوسطى.
أما في مدينة حلب فيبرز خان النحاسين الذي يقع في قلب المدينة القديمة ضمن محيط سوق الزرب، وهو من أهم المراكز الحرفية في شمال سوريا.
تأسس الخان في العهد العثماني وكان يضم أكثر من خمسين ورشة متخصصة في طرق وتزيين النحاس الأصفر، وصناعة الأواني المنزلية والتحف الزخرفية.
حيث يمتاز الأسلوب الحلبي بطابعه العملي أكثر من الدمشقي، إذ تركّزت صناعة النحاسيات هناك على أدوات الاستخدام اليومي مثل القدور والصواني الكبيرة وأواني الطبخ والفناجين.
وفي حمص ازدهرت حرفة النحاسيات في سوريا أيضًا ولكن على نطاق أصغر ففي حمص القديمة كان سوق القيمرية وسوق الناعورة يحتضنان عددًا من الورش المتخصصة في تصنيع الصواني والمباخر ذات الطابع الريفي، التي غالبًا ما كانت تُستخدم في المنازل أو تُصدّر إلى الأسواق الريفية في الساحل والمنطقة الوسطى.
أما في حماة فقد ارتبطت حرفة النحاسيات في سوريا تاريخيًا باستخدام نحاس النواعير، إذ استخدم الحرفيون المعادن القديمة الناتجة عن صيانة النواعير لصنع أدوات وأوانٍ نحاسية صغيرة، ما أضفى على الحرفة بعدًا بيئيًا واقتصاديًا فريدًا.
في العقود الأخيرة نشأت مبادرات لإحياء الحرفة في دمشق الجديدة من خلال مراكز التدريب التابعة لـ الهيئة العامة للحرف والصناعات اليدوية حيث أُنشئت ورش تعليمية في مناطق مثل الربوة وباب توما لتدريب الشباب على مهارات النقش والتطعيم.
كما افتُتحت معارض دائمة في خان أسعد باشا وقصر العظم لعرض منتجات حرفة النحاسيات في سوريا، إلى جانب التحف الحديثة التي تمزج بين الأصالة والتصميم المعاصر.
وتلعب هذه المبادرات دورًا مهمًا في ربط الحرفة بالهوية الثقافية السورية، وفي الحفاظ على مهارات الحرفيين من الاندثار عبر إشراك الجيل الجديد في عملية الإنتاج والإبداع.
اقرأ أيضًا: حرفة صناعة السيف الدمشقي: إرث فني وتقني من القرون الوسطى
القيمة الفنية والثقافية لحرفة النحاسيات في سوريا

تجمع حرفة النحاسيات في سوريا بين الفن التشكيلي والزخرفة الإسلامية، فهي ليست مجرد صناعة بل لغة بصرية تعبّر عن هويةٍ روحية.
النقوش الهندسية المتكررة والآيات القرآنية المكتوبة بخط كوفي أو نسخي تمنح القطع النحاسية بعدًا فنيًا وروحيًا يجعلها تحفًا فريدة.
وفي الختام، تبقى حرفة النحاسيات في سوريا أكثر من مجرد عمل يدوي إنها قصيدة مكتوبة بالمطرقة والنار.
ورغم التحديات يظل النحاس السوري رمزًا للأصالة التي لا تصدأ وصوت الحرفي الدمشقي الذي ما زال يُطرِق النحاس كما لو كان يعزف على ذاكرة وطنٍ بأكمله.
على أمل أن تعود حرفة النحاسيات في سوريا في ظل التطور التقني واهتمام العالم بالمنتجات التراثية لتجد لنفسها مكانًا في الأسواق الحديثة.









