منذ السطر الأول في كتاب “وعّاظ السلاطين”، ندرك أننا أمام عمل لا يريد المهادنة، ولا يسعى إلى إرضاء جمهور المتزمتين أو المصفقين. علي الوردي، المفكر العراقي الجريء، يضعنا في مواجهة أنفسنا، في مواجهة تاريخٍ طويل من التزييف والخداع باسم الدين والفضيلة، ويطرح سؤاله الأزلي: لماذا يعيش الشرق في ازدواجيةٍ بين القول والفعل؟ بين الإيمان والسلوك؟ بين الدين كما أنزله الله، والدين كما يصوغه وعّاظ السلاطين؟
الكتاب ليس نقدًا للدين، بل نقدٌ لمن اتخذوه وسيلةً للهيمنة، أولئك الذين “يُصلّون في الصف الأول وهم أول من يخون عند الامتحان”، كما يقول الوردي في إحدى صفحاته. لقد كتب هذا العمل في منتصف القرن العشرين، لكنه لا يزال يصف واقعنا بدقةٍ مؤلمة، كأنه كُتب صباح هذا اليوم.
اقرأ أيضا :مهزلة العقل البشري حين يصرخ العقل
Contents
المثالية والواقع
ينطلق الوردي من فكرة أساسية: الإنسان ليس ملاكًا ولا شيطانًا، بل كائنٌ تتجاذبه الأضداد. يرى أن الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الوعّاظ هو محاولة تحويل الإنسان إلى ملاك بالقوة، في حين أن طبيعة البشر لا تسمح بذلك. يقول في أحد اقتباساته الشهيرة:
“إن الإنسان من طبيعته أن يتناقض، فليس من العدل أن نطالبه بالكمال، لأن الكمال لله وحده.”
من هنا، يهاجم الوردي أولئك الذين يطالبون الناس بالمثالية الزائفة، في حين يعيشون هم في رفاه النفاق والتبرير. يراهم منافقين باسم الفضيلة، يتاجرون بالمقدّس ويستغلون حاجات الناس الروحية. هذه الفكرة تتكرّر في كل فصول الكتاب، كخيطٍ ناريّ يشقّ جلد الزيف ليفضح المستور.
ازدواجية الشخصية
يُعد هذا المفهوم من أعمدة فكر الوردي، وهو يربطه بالبيئة الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها العرب. يرى أن الإنسان العربي يعيش بين نموذجين متناقضين: نموذج الدين والمُثل العليا، ونموذج الواقع القاسي الذي لا يرحم. ومن هذا التناقض، تولد الشخصية المزدوجة التي “تدين الظلم في النهار وتبرّره في الليل”.
فيقول في أحد مقاطع الكتاب:
“العربي يلعن الاستبداد، فإذا أُعطي سلطة صار مستبدًا أكثر من المستبد نفسه.”
هذه الجملة تكفي لتلخيص مأساة مجتمعاتنا، حيث يتحول المظلوم إلى جلاد عندما تتاح له الفرصة، لأن جذور الظلم لم تُقتلع من العقل الجمعي، بل استبدلت أقنعتها فقط.
اقرأ أيضا : مراجعة أدبية معمقة لكتاب “على السفود”
الدين بين الإخلاص والاستغلال
لم يكن علي الوردي ملحدًا كما اتهمه بعضهم، بل مؤمنًا بالعقل والحرية. كان يرى أن الدين الحقيقي لا يحتاج إلى من يصرخ باسمه في المنابر، بل إلى من يعيش قيمه في صمت. ينتقد الوردي تحويل الدين إلى مؤسسة، يحكمها السلاطين من فوق ويبررها الوعّاظ من تحت.
فيقول في أحد أكثر اقتباساته جرأة:
“لقد وجد السلاطين في الدين سلاحًا يُخدّر الشعوب، فصنعوا وعّاظهم على مقاسهم، كما يصنع الخياط ثوبًا حسب الطلب.”
يضعنا هذا التشبيه أمام حقيقةٍ لا مفرّ منها: أن كثيرًا من الوعّاظ ليسوا رجال دين بقدر ما هم أدوات سلطة وهذا ما يجعل الوردي يكتب بحدةٍ نادرة في زمنه، مؤكدًا أن الفضيلة لا يمكن أن تُفرض من فوق، بل تنبت من داخل الإنسان.
النفاق الاجتماعي
في أحد فصول الكتاب، يتحدث الوردي عن ظاهرة النفاق التي تنخر في المجتمعات الشرقية ، لا يقصد النفاق البسيط في العلاقات اليومية، بل النفاق البنيوي الذي يتسلل إلى الأخلاق والسياسة والتعليم وحتى الدين نفسه.
يقول:
“لقد تعوّدنا أن نُظهر ما لا نبطن، وأن نقول ما لا نفعل، حتى غدا الصدق غريبًا بيننا.”
ينتقد الوردي الطريقة التي تُربّى بها الأجيال على الخوف لا على التفكير، وعلى الطاعة لا على النقد. هذه التربية تُنتج أناسًا يحترفون التمثيل، يعيشون بشخصيتين: واحدة علنية للناس، وأخرى سرية لأنفسهم، ولذلك يرى أن الإصلاح لا يبدأ من السلطة ولا من الوعّاظ، بل من الداخل، من تربية الضمير.
سلطة الوعّاظ وعبودية العقول
يخصص الوردي فصلًا كاملاً لشرح كيف تحولت سلطة الوعّاظ إلى نوعٍ من “الوصاية الروحية” على الناس،يصفهم بأنهم “كهنة العصور الحديثة”، الذين يوزّعون صكوك الغفران والتوبة، ويمنحون أو يسحبون الشرعية بحسب أهوائهم.
يقول في اقتباسٍ لاذع:

“الواعظ الذي يعيش في قصر السلطان لا يستطيع أن يُدين القصور، بل يكتفي بوعظ الفقراء بالصبر.”
بهذا المنطق، يرى الوردي أن المشكلة ليست في الدين، بل في من احتكروه وجعلوه وسيلة للتسلط. فحين تتحول الكلمة الإلهية إلى وسيلة للهيمنة، تضيع الروح، ويُغتال العقل.
نقد الذات قبل نقد الآخر
من أجمل ما في الكتاب أن الوردي لا يكتفي بانتقاد رجال الدين أو السلاطين، بل يوجّه إصبعه إلى المجتمع نفسه، وإلى كل فردٍ يعيش الازدواجية دون أن يشعر بها.
يقول:
“لسنا ضحايا وعّاظ السلاطين وحدهم، بل نحن الذين صنعناهم بأيدينا حين خفنا من قول الحقيقة.”
بهذا الاعتراف الصادق، يدعونا الوردي إلى ثورة داخلية، ثورة لا تُرفع فيها الأسلحة، بل تُرفع فيها المرآة ، يريدنا أن نرى أنفسنا كما نحن، لا كما نحب أن نبدو، إنه يزرع في القارئ شعورًا مرًّا بالمسؤولية، لكنه في الوقت نفسه يفتح باب الأمل بأن التغيير ممكن إذا تجرأنا على الصدق.
الجرأة
حين صدر الكتاب في خمسينيات القرن الماضي، أحدث ضجة واسعة ، فقد تجرأ علي الوردي على نقد الطبقة الدينية والسياسية في مجتمعٍ محافظٍ شديد الحساسية تجاه أي نقد. اتُّهم بالزندقة، وبأنه “يهدم القيم”، لكنه لم يتراجع ظل يقول كلمته بثقة:
“إنني لا أهاجم الدين، بل أهاجم الذين شوّهوا الدين.”
لقد سبق الوردي زمنه بعقود. كتب عن الحرية الفكرية قبل أن تصبح شعارًا، وعن الصراع الطبقي قبل أن يتجرأ أحد على النطق به. ولذلك صار كتابه اليوم مرجعًا فكريًا لكل من يبحث عن الحقيقة بعيدًا عن التقديس الأعمى.
لغة الوردي
من أجمل سمات الكتاب أسلوبه الفريد. فهو يمزج بين العمق الاجتماعي والسخرية اللاذعة، وبين اللغة الفلسفية والقصص الشعبية. يجعل القارئ يفكر ويبتسم في الوقت نفسه، ويشعر أنه أمام معلمٍ ومشاكسٍ في آن واحد.
يقول في أحد المقاطع:
“إننا نكره من يقول لنا الحقيقة، ونحب من يمدحنا بالكذب. فمتى نتعلم أن نحب الحقيقة كما هي؟”
أسلوب الوردي يذكّرنا بالمتصوفة الثائرين، أولئك الذين جعلوا من الكلمات سيوفًا تقطع أغلال الوهم. إنه لا يكتب ليتفلسف، بل ليوقظ.
“وعّاظ السلاطين” اليوم
بعد مرور أكثر من نصف قرن، ما يزال هذا الكتاب حيًا. بل ربما صار أكثر راهنية من أي وقت مضى لأن المجتمعات العربية ما زالت تعيش الصراع نفسه بين الحرية والقيد، بين الدين الصادق والدين المصنوع.
يستحق “وعّاظ السلاطين” القراءة لأنه يمنح القارئ شجاعة الشك، لا شكّ الهدم، بل شكّ البحث عن الصدق. إنه كتاب يزعجك لكنه يطهّرك من الداخل.
يقول الوردي في أحد ختاماته البليغة:
“إن الواعظ الصادق هو الذي يعظ نفسه أولًا.”
هذه العبارة تختصر جوهر الكتاب بأكمله. فقبل أن نحاسب غيرنا، علينا أن نبدأ من أنفسنا.
أثر الكتاب في الفكر العربي
لم يكن تأثير “وعّاظ السلاطين” محصورًا في العراق، بل امتد إلى كل العالم العربي، فقد أصبح مرجعًا في علم الاجتماع الديني والسياسي، ومصدر إلهام لجيلٍ كامل من المفكرين الذين سعوا إلى تحرير العقل من سلطة الوعّاظ.
أثره الأعمق أنه فتح باب الحوار بين الدين والعقل، بعد أن كان هذا الباب مغلقًا،دعا إلى التفريق بين الإيمان الصادق والإيمان المزيف الذي يُصنع في البلاط. وبهذا، كان الوردي من أوائل من رفعوا راية “إصلاح الفكر قبل إصلاح الحكم.”
إن القارئ الذي ينهي الكتاب يشعر وكأنه خرج من غرفةٍ مظلمة إلى النور، لكنه نورٌ يلسع العيون في البداية. لأن الحقيقة ليست مريحة، لكنها وحدها تُنقذ.
في نهاية الكتاب، يقف الوردي أمامنا كمن يسلّم الشعلة. كأنه يقول لنا:
“لقد قلت كلمتي في زمن الخوف، فقولوا كلمتكم في زمن الضجيج.”
“وعّاظ السلاطين” ليس مجرد عنوانٍ لكتاب، بل رمزٌ لكل من استغل الدين للهيمنة، والكتاب، رغم مرارته، يزرع فينا بذرة وعيٍ جديدة، تدعونا لنفكّر، ونتساءل، ونرفض أن نكون بيادق في لعبة الكذب المقدس.
نعم، إنه كتابٌ مؤلم، لكنه كالألم الذي يسبق الشفاء ، يذكّرنا بأن الحقيقة لا تُعلَن من فوق المنابر، بل تُولد في القلب عندما نجرؤ على النظر في المرآة دون خوف.
وربما لهذا السبب تحديدًا، ما زال علي الوردي حاضرًا، يُهمس في أذن كل قارئ صادق:
“إن طريق الإصلاح يبدأ من العقل لا من الوعظ.”
التقييم النهائي
- اسم الكتاب: وعّاظ السلاطين
- اسم الكاتب: الدكتور علي الوردي
- عدد الصفحات: 272 صفحة تقريبًا
- تقييم النجوم: ⭐⭐⭐⭐⭐ (5/5)
- الفئة المناسبة: للمهتمين بالفكر الاجتماعي والنقد الديني والسياسي
- اللغة: العربية
- الموضوع: نقد الازدواجية الأخلاقية والنفاق الاجتماعي والديني










