في عالم يزدحم بالصخب اليومي، تبدو الكتب التي تروي تجارب السجون وكأنها جروح مفتوحة على الورق. ورولية “للسجن مذاق آخر” للكاتب الأسير أسامة الأشقر واحد من هذه النصوص التي لا تُقرأ بعين العقل فقط، بل تُشعر بها الروح قبل أن تستوعبها المخيلة. هذا العمل ليس رواية متخيلة ولا دراسة أكاديمية باردة، بل هو وثيقة حيّة عن تجربة إنسانية متفجرة بالألم، محمّلة بالكرامة، ومشبّعة بالمعاني التي تجعل القارئ يختبر عالماً آخر من الداخل: عالم السجن.
الكاتب لا يقدّم السجن كساحة للمعاناة فقط، بل يرسم صورة مركّبة: هناك طعم مرّ للحياة خلف القضبان، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن مذاق آخر، فيه شيء من الإرادة الصلبة، شيء من الإيمان، وشيء من الصمود الذي لا ينكسر. ومن هنا جاء عنوان الكتاب، وكأن الأشقر أراد أن يقول لنا: نعم، للسجن مذاق مؤلم، لكنه أيضاً يحمل نكهة المقاومة التي لا يعرفها إلا من عاشها.
Contents
بين التوثيق والأدب
منذ الصفحات الأولى، يضعنا أسامة الأشقر أمام أسلوب يجمع بين السرد التوثيقي الدقيق واللمسة الأدبية التي تمنح النص حرارة إنسانية. نحن لا نقرأ تقريراً عن الاعتقال، بل نتابع تفاصيل الحياة اليومية للأسير، ونتنقل معه بين المراحل القاسية: لحظة الاعتقال، التحقيق، الزنازين، المعبار، التنقل بالبوسطة، العزل، وأخيراً تفاصيل الحياة الطويلة داخل السجون.
يكتب الأشقر بوعي أن تجربته ليست فردية فقط، بل هي جزء من الذاكرة الجمعية الفلسطينية. لذلك يحاول أن يحوّل معاناته إلى شهادة تحمل قيمة إنسانية وسياسية وأدبية في آن واحد. والجميل أن نصه لا يغرق في البكائيات، بل يمنح القارئ جرعة من الأمل بين السطور.
التجربة النفسية للأسير
السجن ليس جدراناً من حديد فقط، بل هو امتحان للنفس والروح. والكاتب يدرك ذلك تماماً، فيخصّص صفحات طويلة لوصف الأثر النفسي للاعتقال: الخوف الأولي، صدمة الفراق، الانتظار الطويل، وضغط العزلة. لكنه في الوقت نفسه يبيّن كيف يمكن للأسير أن يصنع من ضعفه قوة.
يكتب قائلاً:
“في زنزانة ضيقة لا تتسع لخطوتين، تعلّمت أن أوسّع العالم داخل رأسي، أن أفتح نوافذ خيالي، وأن أتنفّس من بين جدران مغلقة.”
هذا الاقتباس يلخص فلسفة الكتاب: أن السجن يمكن أن يكون مكاناً لتحطيم الجسد، لكنه لا يستطيع أن يقيد الروح إذا تشبثت بالأمل.

حروب الظل
من أهم الفصول وأكثرها تأثيراً في الكتاب ما أطلق عليه الأشقر “حروب الظل”. هنا لا يتحدث عن المواجهة المباشرة بين الأسير والسجان، بل عن السياسات الخفية التي تُمارس داخل السجون بهدف تفكيك البنية التنظيمية والاجتماعية للأسرى.
هذه الحروب النفسية والناعمة قد تكون أشد قسوة من العنف الجسدي: نشر الشائعات، إضعاف الروح المعنوية، استغلال الفوارق الفردية، وتفتيت الروابط بين الفصائل. الأشقر لا يكتفي بالكشف عن هذه الممارسات، بل يوضح كيف نجح الأسرى في المقاومة التنظيمية والفكرية، وكيف تحوّلوا إلى مجتمع صغير قائم على التضامن والانضباط.
“أرادوا أن يحوّلونا إلى جزر معزولة، لكننا صنعنا من السجن وطناً آخر، نحميه بالوعي قبل أن نحميه بالقوة.”
اللغة بين الألم والجمال
لغة الكتاب تجمع بين القسوة والشفافية. فحين يصف النقل بالبوسطة، مثلاً، يكتب:
“كنا نُكدّس في حافلة حديدية خانقة، أشبه بقبر متحرك، نتنقل من سجن إلى آخر وكأننا جثث تُرحَّل.”
لكن وسط هذا الألم، تلمع لحظات من الجمال الروحي:
“حتى في زنزانة مظلمة، كنت أشعر أن نوراً ينساب من داخلي، يربطني بالسماء ويمنحني عزيمة لا تهزم.”
هذه القدرة على الجمع بين المرارة والأمل هي ما يجعل الكتاب مختلفاً عن مجرد شهادة أسير، إنه نص أدبي يُحسن اللعب على أوتار الروح.
اقرأ أيضا : قلق السعي إلى المكانة: بين الطموح وراحة النفس
البعد الإنساني
لا يقتصر الكتاب على معاناة الأسير نفسه، بل يتسع ليشمل محيطه: العائلة، الأم، الزوجة، الأبناء، الأصدقاء. فالسجن لا يبتلع الأسير وحده، بل يمتد أثره ليحاصر كل من يحبونه.
“أشد أنواع العذاب لم تكن قسوة السجان، بل غياب أمي حين كنت أحتاج رائحتها، وصوت ابني حين كنت أشتاق أن أحمله.”
هذه الجملة تعكس بوضوح كيف يصبح السجن تجربة جماعية، تتقاطع فيها المشاعر بين الداخل والخارج.

المقاومة بالكتابة
من النقاط المضيئة في الكتاب أن الكاتب يُظهر الكتابة نفسها كفعل مقاومة. فهو يكتب ليؤكد وجوده، ليقول إنه ليس مجرد رقم في ملفات الاحتلال، بل إنسان له قصة وصوت وذاكرة.
“الكتابة كانت نافذتي، بها كنت أخاطب العالم، وأكسر عتمة الزنزانة، وأحوّل القيود إلى كلمات لا يستطيع السجان مصادرتها.”
بهذا المعنى، يتحوّل الأدب إلى أداة للبقاء والحرية، حتى داخل أقسى ظروف القيد.
نقد وتحليل
على الرغم من قيمة الكتاب العالية، يمكن تسجيل بعض الملاحظات:
- النص يميل أحياناً إلى التوثيق المباشر أكثر من التخييل الأدبي، مما قد يجعله جافاً في بعض المقاطع.
- حجم الكتاب (حوالي 175 صفحة) يجعله مكثفاً، وربما كان القارئ يتمنى توسعاً أكبر في بعض التجارب.
- بعض التكرار في وصف الألم النفسي قد يُشعر القارئ بالثقل، لكنه في الوقت نفسه يعكس واقعية التجربة.
لكن هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة الكتاب، بل تعكس طبيعته كشهادة واقعية صادقة، أكثر مما هو عمل روائي محض.
اقرأ أيضا : وحي القلم.. نفحات الأدب وروح البيان
الاقتباسات
إلى جانب ما سبق، هذه بعض الاقتباسات من الكتاب:
- “تعلمت أن الحرية ليست فقط في أن تخرج من السجن، بل أن تحافظ على نفسك حراً داخله.”
- “كانوا يظنون أن العزل الانفرادي سيقتلني، لكنه كان مدرسة علّمتني كيف أصادق وحدتي.”
- “السجن عالم ضيق، لكنه يفتح لك أبواباً واسعة لتتأمل نفسك وتعرف حقيقتك.”
- “أشد العقوبات لم تكن القيود، بل الانتظار الطويل لرسالة لا تصل.”
- “حتى في أشد لحظات الضعف، كنت أرى أن دمعة الأم تساوي وطناً كاملاً.”
- “كلما اشتدّ سواد الزنزانة، أضاءت في قلبي قنديل الدعاء.”
- “ليس من السهل أن تُحرم من نافذة، لكن الأصعب أن يُحاولوا حرمانك من الأمل.”
- “في البوسطة كنا جثثاً معلّقة بين السجون، لكننا كنا نحمل قلوباً تنبض بالحرية.”
- “كتبت لأقول للعالم: نحن هنا، لا تنسونا.”
- “السجن يعلّمك أن الحرية قرار داخلي، قبل أن تكون واقعاً خارجياً.”
عند الانتهاء من قراءة “للسجن مذاق آخر”، لا يخرج القارئ بالشفقة فقط، بل بشعور أعمق: أن هناك إرادة بشرية لا تُكسر مهما اشتدت الظروف. الكتاب شهادة على أن الحرية ليست غياب القيود المادية فحسب، بل حضور الوعي والكرامة والإيمان.
أسامة الأشقر، الأسير الذي كتب نصه من قلب العتمة، يمنحنا درساً في كيف يمكن للكلمة أن تهزم الجدار، وكيف يمكن للأمل أن ينتصر على العزلة، وكيف يمكن للإنسان أن يظل إنساناً حتى وهو محاصر بالحديد.
الخاتمة هنا ليست مجرد تلخيص، بل هي دعوة للتأمل: ماذا نفعل نحن الأحرار بهذه الحرية التي نملكها؟ وهل ندرك أن خلف كل جدار هناك أرواح تكتب وتصرخ وتقاوم؟
“للسجن مذاق آخر” ليس كتاباً للقراءة فقط، بل هو تجربة عاطفية وفكرية تترك أثرها طويلاً في النفس. إنه مرآة تعكس قسوة الواقع الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تكشف عن الوجه الأجمل للإنسان حين يتمسّك بالكرامة.

التقييم النهائي
- اسم الكتاب: للسجن مذاق آخر
- اسم الكاتب: أسامة الأشقر
- عدد الصفحات: 175 صفحة تقريباً
- التقييم: ⭐⭐⭐⭐☆ (4.5 من 5)
- الفئة المناسبة: أدب السجون / سيرة ذاتية نضالية
- اللغة: العربية
- الموضوع: تجربة الأسرى الفلسطينيين ومعنى الصمود