اقرأ معنا

“نيران توبقال” وفلسفة السموّ الإنساني

نيران توبقال

فيزياء المكان وميتافيزيقيا الروح

لا يمكن الحديث عن “نيران توبقال” دون التوقف طويلاً عند “الجبل” ككيان وجودي في رواية فيصل الأنصاري، الجبل ليس تضاريس، بل هو “مرتبة” من مراتب الكشف يضعنا الكاتب منذ السطور الأولى في مواجهة مع جلال الارتفاع إن اختيار “توبقال” (أعلى قمة في شمال إفريقيا) ليس عبثاً، بل هو رمز للبحث عن “الأعلى” في النفس البشرية.

الأنصاري يستخدم تقنية “الأدب الجغرافي” حيث يمتزج التراب بالدم، والصخر بالذاكرة إنك تشمّ رائحة “العرعار” و”الشيح“، وتسمع حفيف الريح وهي تصطدم بالنتوءات الصخرية هذا الوصف ليس مجرد استعراض لغوي، بل هو وسيلة لإدخال القارئ في حالة من “التنويم المغناطيسي” المكاني، حيث يتلاشى العالم الخارجي ولا يبقى إلا أنت والجبل.

شخوصٌ من طينٍ ونار

في هذا النص، الشخصيات ليست “نماذج” ورقية، بل هي كائنات مثقلة بالخيبات كل شخصية تصعد الجبل تحمل معها “حقيبة” غير مرئية مليئة بالأسئلة المؤجلة.

  1. المثقف المأزوم: الذي يهرب من ضجيج “المدينة/المسخ” باحثاً عن حقيقة غابت عنه وسط الأوراق، ليكتشف أن الحقيقة لا تُقرأ بل تُعاش بالجهد العضلي والتنفس المتلاحق.
  2. الإنسان المحلي (الأمازيغي): الذي يمثل “الحكمة الفطرية”. إنه الشخصية التي لا تتكلم كثيراً، لكن صمتها هو شرحٌ وافٍ لمعنى الصبر والتعايش مع القسوة الأنصاري هنا ينصف “إنسان الجبل” ويظهره كحارس للمقدس، وليس مجرد “دليل سياحي”.
  3. المرأة في النص: تظهر كقوة ملهمة أو كذكرى محركة، هي “نار” أخرى تشتعل في الذاكرة لتنافس نار الموقد في ليالي الشتاء القارسة.

صوفية النيران

العنوان نفسه “نيران توبقال” يحمل تضاداً مذهلاً. الجبل مرتبط بالبرد والثلج، فكيف تجتمع النار والثلج؟ هنا تكمن عبقرية الأنصاري في اللعب على المتناقضات. النار في الرواية هي:

  • نار الحاجة: للتدفئة والبقاء.
  • نار الوجد: التي تدفع الإنسان لترك أهله وماله والارتقاء في مسالك وعرة.
  • نار الحقيقة: التي تحرق الأقنعة الاجتماعية وتكشف زيف الشخصيات أمام أنفسها.

إن مشهد تجمع الأبطال حول النار في “الملجأ” هو مشهد محوري، يشبه “حلقة ذكر” صوفية، حيث تسقط الرتب والمكانات، ويصبح الجميع سواسية أمام سطوة الطبيعة وعظمة الخالق هنا يتجلى الأسلوب الشاعري للأنصاري، حيث تتحول الكلمات إلى “شرارات” تتطاير من السطور لتستقر في وجدان القارئ.

البنية السردية

تتبع الرواية بنية دائرية/تصاعدية نحن نبدأ من القاع، لكننا لا نعود إليه أبداً كما كنا الأنصاري يتقن فن “المماطلة السردية” المحببة، حيث يؤخر الكشف عن الدوافع الحقيقية لأبطاله، مما يخلق حالة من التشويق النفسي.

الزمن في الرواية ليس زمناً خطياً سبيلاً، بل هو “زمن شعوري” اللحظة التي يقضيها المتسلق وهو يواجه منحدراً خطيراً تمتد لتشمل صفحات من المونولوج الداخلي، بينما تمر أيام من السير الرتيب في جمل قصيرة هذا التلاعب بالزمن يعكس بدقة الحالة النفسية للإنسان في مواجهة الخطر.

اقرأ أيضا : الجساسة: حين يتحول الغموض إلى مرآة للإنسان

اللغة كأداة للتحول

لماذا نعتبر لغة فيصل الأنصاري لغة “شاعرة”؟ لأنها لغة تعتني بـ “الرنين” الجملة عنده تنتهي بوقع موسيقي، والاستعارات ليست مجلوبة من القواميس القديمة، بل هي ابنة اللحظة عندما يصف “السحاب” وهو يلف القمة، لا يصفه كبخار ماء، بل كـ “رداء كاهن” أو “غيمة شك” تراود اليقين.

إن استخدامه للمصطلحات المحلية المغربية بذكاء يضفي صبغة من “الواقعية السحرية” على العمل إنه لا يترجم المشاعر، بل يتركها تنضح من خلال مفردات الأرض، مما يجعل النص “مغربي الهوية، عالمي الإنسانية”.

افرأ أيضا : كيف تغير حياتك في سبعة أيام

نيران توبقال والسياسة الخفية

رغم أن الرواية تبدو في ظاهرها رحلة استغوارية ونفسية، إلا أنها تحمل في طياتها نقداً مبطناً للمجتمع والسياسة. الجبل هو “الملاذ” من فساد القاع ، الصعود هو نوع من “الاحتجاج” الصامت على واقع لا يرضي طموح الأرواح الحرة. ” نيران توبقال ” هي صرخة ضد التشييء، ضد تحويل الإنسان إلى مجرد رقم في معادلة الاستهلاك.

الأنصاري يطرح تساؤلاً مريراً : لماذا يضطر الإنسان للصعود إلى 4167 متراً لكي يشعر بأنه إنسان؟ ولماذا تضيق بنا المدن وتتسع لنا الصخور الصماء؟

حوارية الصمت والصدى

من أجمل التقنيات التي استخدمها الكاتب هي “حوارية الصمت” في المرتفعات، يقل الكلام، ويصبح الصمت لغة تواصل الأبطال يفهمون بعضهم بنظرة، بهزة رأس، أو بمشاركة رغيف خبز يابس هذا الصمت هو الذي يمنح الرواية هيبتها.

إن الصدى الذي يتردد في الوديان هو “صوت الضمير” الذي يواجهه الأبطال كل كلمة تقال في “توبقال” لها وزن الرصاص، لأنها تقال في حضرة الموت المحتمل، وفي رحاب الجمال المطلق.

القيمة الأدبية والرسالة الختامية

إن رواية “نيران توبقال” لفيصل الأنصاري ليست مجرد إضافة للمكتبة المغربية أو العربية، بل هي علامة فارقة في “أدب الجبل” لقد استطاع الأنصاري أن يحول “الجغرافيا” إلى “تاريخ شخصي”، وأن يجعل من “التسلق” طقساً عبادياً وفكرياً.

لماذا يجب أن نقرأ هذه الرواية مراراً؟

  1. لأنها تعيد لنا صلتنا بالطبيعة: في عصر الشاشات، تذكرنا “نيران توبقال” بملمس الحجر ورائحة المطر.
  2. لأنها تروي ظمأنا للغة الجميلة: بعيداً عن الركاكة السائدة، يقدم الأنصاري وجبة لغوية دسمة وراقية.
  3. لأنها مرآة: ستجد نفسك في أحد هؤلاء الصاعدين، وستكتشف أن “توبقالك” الخاص ينتظرك لتصعده.

سديم الوداع

لا تنتهي رحلة “نيران توبقال” عند النقطة الأخيرة التي وضعها فيصل الأنصاري؛ بل هي تبدأ فعلياً في تلك اللحظة التي يغلق فيها القارئ دفتي الكتاب ويواجه صمته الشخصي إن الخاتمة في هذا العمل ليست مجرد إعلان عن نهاية مسار جسدي، بل هي إعلان عن ميلاد “رؤية” جديدة ، لقد استطاع الأنصاري أن يقودنا عبر منحدرات اللغة الوعرة، ليتركنا في النهاية فوق قمة شاهقة من التأمل، حيث لا هواء يكفي للنفاق، ولا متسع للهروب من الحقيقة العارية.

فلسفة النزول

النزول من القمة في الرواية ليس تراجعاً، بل هو “انتشار” للحكمة التي اكتُسبت في الأعالي يصور لنا الكاتب كيف أن الأبطال، وهم يهبطون نحو القاع (المدينة/ الواقع)، يشعرون بغربة مضاعفة لقد تلوثت أرواحهم بنقاء الثلج، واكتحلت عيونهم بضياء النجوم القريبة، فأصبح العالم السفلي يبدو لهم ضيقاً، باهتاً، ومثقلاً بالزيف. هذه “الغربة العائدة” هي أسمى تجليات البطل التراجيدي عند الأنصاري؛ هو بطل يعرف الحقيقة، لكنه محكوم عليه بالعيش مع من لم يروها.

إن الوداع هنا ليس وداعاً للمكان، بل هو وداع لتلك النسخة القديمة من ذواتنا التي بدأت الرحلة “نيران توبقال” تحرق الجسور خلفنا، فلا نعود قادرين على النظر إلى جبالنا الداخلية بذات العينين اللتين بدأنا بهما الصعود.

استمرارية النيران

النيران التي أوقدها الأنصاري في قلب توبقال لا تخمد بانتهاء الحكاية إنها تظل متقدة كرمز للإرادة الإنسانية التي لا تُقهر يتركنا الكاتب مع تساؤلٍ كوني: هل الجبل هو الذي غيرنا، أم أننا نحن من منحنا الجبل معناه؟ من خلال لغته الشاعرية، يؤكد لنا أن القداسة ليست في الحجر، بل في “المسعى”.

لقد نجح فيصل الأنصاري في جعل “توبقال” أيقونة كونية، تتجاوز حدود الجغرافيا المغربية لتمثل كل تحدٍ عظيم يواجهه الإنسان في سعيه نحو السمو النيران هنا هي “المعرفة” التي تضيء دروبنا المعتمة، وهي “العشق” الذي يمدنا بالطاقة لنستمر في السير رغم تشقق الأقدام ونزيف الأحلام.

الكلمة كصخرة

في ختام هذه المراجعة، لا يسعنا إلا أن ننحني أمام جزالة الأسلوب الذي صاغ به الأنصاري ملحمته لقد كانت كلماته تشبه صخور الأطلس في قوتها، وتشبه شلالات “أوريكا” في انسيابها وعذوبتها لم يكن يكتب ليحكي، بل كان يكتب لـ “يخلق” عالماً موازياً، عالماً نتطهر فيه من أدران المادية ونعود فيه إلى بدائيتنا المقدسة.

إن “نيران توبقال” هي وثيقة أدبية تثبت أن الرواية العربية لا تزال بخير، وأنها قادرة على اجتراح معجزات لغوية حين يتوفر لها الكاتب الذي يمتلك “رؤية الكاشف” و”ريشة الرسام” إنها دعوة دائمة لنا جميعاً لكي نبحث عن “توبقالنا” الخاص، لكي لا نرضى بالسهول المريحة، ولكي نوقد نيراننا في أعالي القمم، حيث لا يصل إلا من آمن بأن الروح خلقت لتحلق، لا لترحل في صمت القيعان.

الأثر الباقي

سيظل صدى هذه الرواية يتردد في ردهات الفكر طويلاً إنها ليست كتاباً يُقرأ ويُنسى، بل هي “خارطة طريق” لكل تائه في دروب الوجود بأسلوبه الشاعري الأدبي الرصين، استطاع فيصل الأنصاري أن يجعل من “نيران توبقال” منارة فكرية، تذكرنا دوماً بأن خلف كل ألم، هناك قمة تنتظر، وخلف كل برد، هناك نيران تقدح شرر الأمل في ظلام اليأس.

لقد ختم الكاتب روايته، لكنه لم يختم الجرح الذي فتحه في وعينا؛ وهو جرح السؤال، وجرح البحث، وجرح التطلع نحو اللامتناهي. “نيران توبقال” هي قصيدة الوجود التي تُكتب بالدموع والعرق، وتُقرأ بالقلب قبل العين.

تنتهي الرواية، لكن النيران تظل مشتعلة يتركنا فيصل الأنصاري على الحافة، ننظر إلى الأفق البعيد، مدركين أن الرحلة لم تنتهِ بلمس القمة، بل بدأت للتو الإنسان الذي ينزل من “توبقال” ليس هو ذاته الذي صعده. لقد احترق شيء ما فيه، ونبت شيء آخر.

هذه هي قوة الأدب الحقيقي، أن يغيرنا، أن يزلزل قناعاتنا، وأن يمنحنا “نيراناً” نستهدي بها في ليل وجودنا الطويل ، شكراً لفيصل الأنصاري الذي أشعل هذه النار، وشكراً لتوبقال الذي احتضن هذا السرد الجليل .

السابق
قبة الإمام الشافعي في الفن والآداب الإسلامية
التالي
رحلة في نهر الشك “الأميرال العائم”