بوابة الأردن

السلط.. مدينة الجبال والذاكرة والتراث الحي

المدينة التي تنبض بالحياة

حين يُذكر اسم السلط، يتجسد أمام العين مشهد البيوت الحجرية الصفراء، التي تتدرج كدرجات على سفوح الجبال، والشوارع الضيقة الملتوية، التي تشهد على حكايات أهلها منذ قرون طويلة. السلط ليست مجرد مدينة على الخريطة، بل هي ذاكرة حية لأجيال من الناس والتاريخ والطبيعة، وملاذ للتسامح، وموئل للعلم، وجسر يربط الماضي بالحاضر.

في كل زاوية من السلط عبق من التاريخ، وفي كل حجر حكاية، وفي كل بيت قديم قصيدة تروي مجد المكان. وهي مدينة حيث تلتقي الطبيعة بالحضارة، والإنسان بالتاريخ، لتقدم لوحة متكاملة من الحياة البسيطة والمعقدة في آن واحد.


الموقع والجغرافيا: مدينة على قمم الجبال

تقع السلط على بعد نحو ثلاثين كيلومترًا شمال غرب العاصمة عمّان، وعلى ارتفاع يتراوح بين 800 و1100 متر فوق سطح البحر، مما يمنحها مناخًا معتدلًا يميل إلى البرودة شتاءً والاعتدال صيفًا. هذه المرتفعات جعلت المدينة تطل على وديان خضراء، تعكس جمال الطبيعة الأردنية، وتجعلها مكانًا مثاليًا للتنزه والاستجمام.

تتوزع أحياء السلط على تلال مختلفة، مثل: الطف، الخضر، الجدعة، السلالم، ووادي الأكراد، وكل حي له طابعه الخاص من حيث المعمار، السكان، والتقاليد. هذه التوزيعة الجغرافية منح المدينة منظرًا بانوراميًا ساحرًا يمكن رؤيته من أي نقطة مرتفعة، حيث تتلألأ البيوت الحجرية تحت أشعة الشمس الذهبية، وكأنها لوحة فنية مرسومة بعناية.


لمحات تاريخية: من العصور القديمة حتى الدولة الأردنية

السلط في العصور القديمة

عرفت السلط منذ القدم بأنها محطة مهمة على طرق القوافل والتجارة بين بلاد الشام والحجاز، وكانت تحتل موقعًا استراتيجيًا مميزًا. آثار الرومان والبيزنطيين ما زالت حاضرة في بعض المواقع، بما في ذلك بعض الأعمدة الحجرية والمقابر القديمة، التي تعكس عمق التاريخ وغنى الحضارات التي مرت بالمدينة.

السلط في العهد الإسلامي

مع الفتح الإسلامي، ازدهرت السلط كمركز تجاري وزراعي، واستمرت في لعب دور مهم على طول التاريخ الإسلامي، حيث كانت محطة للقوافل والمسافرين. استوطنها المسلمون والمسيحيون جنبًا إلى جنب، وبدأت تظهر ملامح التسامح الديني والاجتماعي التي أصبحت لاحقًا سمة أساسية للمدينة.

السلط في العهد العثماني

عندما دخل العثمانيون، أصبحت السلط مركزًا إداريًا مهمًا، ومقرًا للولاة لتسيير شؤون المنطقة. ازدهرت الحياة الاقتصادية، وتطورت الزراعة، وبرزت البيوت الحجرية التي ما زالت قائمة حتى اليوم، والتي تميزت بالتصاميم المعمارية المتقنة، والنوافذ المقوسة والشرفات الخشبية المزخرفة.

السلط وبداية الدولة الأردنية

لعبت السلط دورًا بارزًا في بدايات تأسيس إمارة شرق الأردن، إذ كانت أول مدينة يزورها الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921. احتضنت السلط العديد من الاجتماعات واللقاءات التي أسست لميلاد الدولة الأردنية الحديثة، وخرجت منها شخصيات سياسية وثقافية بارزة ساهمت في بناء الدولة.


الهوية الوطنية: مدينة التسامح والتعليم

السلط مدينة التسامح والتعايش، حيث عاش المسلمون والمسيحيون جنبًا إلى جنب منذ قرون طويلة، يشتركون في الاحتفالات الدينية والاجتماعية، ويعكس ذلك روح المدينة المفتوحة على الحوار والتعددية.

كما أن السلط مدينة العلم والمعرفة، حيث تأسست فيها أول مدرسة ثانوية في الأردن عام 1923، وتخرّج منها العديد من القيادات الأردنية في مختلف المجالات. اليوم تحتضن السلط جامعة البلقاء التطبيقية، التي تُعد من أبرز الجامعات الأردنية وتستقطب آلاف الطلاب من مختلف المحافظات.

اقرأ أيضا :نهاية رجل شجاع ، حكاية نضال مؤلم .


التراث العمراني: بيوت الحجر الأصفر

تُعرف السلط بـ البيوت الحجرية الصفراء، التي تتدرج على سفوح الجبال، وتتزين بالنوافذ المقوسة والشرفات الخشبية. هذه البيوت ليست مجرد مساكن، بل هي ذاكرة حية تعكس حياة العائلات، وتروي قصة الثراء الثقافي والاجتماعي للمدينة.

من أبرز البيوت:

  • بيت طوقان: نموذج للمعمار العثماني.
  • بيت أبو جابر: يعكس فنون البناء التقليدية.
  • بيت العجيلات: مشهور بتفاصيله الدقيقة وشرفاته الخشبية المزخرفة.

كما أن الأسواق القديمة في السلط، مثل سوق الطف وسوق الحدادين، تمثل قلب المدينة النابض، حيث يمكن للزائر أن يشعر بروح المدينة الحية، ويستمع إلى أصوات الباعة ويشم روائح البهارات والخبز الطازج.


الحياة الاجتماعية والعادات

الحياة في السلط تحمل طابعًا عائليًا أصيلًا، حيث تسود القيم الاجتماعية من تكافل وتعاون، ويتمسك الناس بعاداتهم وتقاليدهم. من أبرز العادات:

  • الجاهة والعطوة: وسيلة لحل النزاعات والمصالحة بين الأسر.
  • الولائم والمناسبات: مثل المنسف السلطّي التقليدي، الذي يمثل رمز الكرم والضيافة.
  • المضافات: حيث يجتمع الرجال للنقاش والتشاور حول شؤون المجتمع.

النساء في السلط أيضًا يلعبن دورًا اجتماعيًا مهمًا، من خلال الحفاظ على التقاليد الثقافية، والمشاركة في الأعمال الخيرية، وصناعة الحرف اليدوية التقليدية.

اقرأ أيضا : مراجعة رواية اسمه أحمد .


الثقافة والفنون الشعبية

الفنون الشعبية جزء لا يتجزأ من هوية السلط، وخاصة الدبكة الأردنية، التي يؤديها الشباب في المناسبات والأعياد. الأغاني الفلكلورية تحكي حياة الجبال والزراعة، وتعكس حكايات الحب والفقدان والفرح.

كما أن الشعر النبطي والحكايات الشعبية تعتبر وسيلة لنقل القيم والمعرفة بين الأجيال، وجزءًا من التراث الشفوي الغني للمدينة.


المأكولات السلطية: مذاق التاريخ

السلط تشتهر بمأكولاتها التقليدية التي تعكس طبيعة المدينة وثقافتها:

  • المنسف بالجميد البلدي: الطبق الوطني الأردني الذي يحظى بمكانة خاصة في السلط.
  • الكبة السلطية: من أبرز الأطباق التي تقدم في المناسبات.
  • المفتول والخبز الطابون: تعكس أساليب الطهي التقليدية التي انتقلت عبر الأجيال.

كل طبق يحمل بين طياته قصة المكان، ويعكس طابع العائلة والحياة اليومية في المدينة.


الأحياء القديمة: كل حي حكاية

حي الطف

أحد أقدم أحياء السلط، ويشتهر بشوارعه الضيقة وبيوته الحجرية القديمة، وسكانه المحافظين الذين حافظوا على تقاليدهم منذ مئات السنين.

حي الخضر

يتميز بإطلالته على الوادي الأخضر، وبساتينه الغنية بالزيتون والكرمة، وهو حي يعبّر عن الجانب الزراعي للمدينة.

حي الجدعة

يضم العديد من البيوت التراثية التي تحكي قصة العائلات السلطية العريقة، ويشتهر بالأسواق القديمة والمقاهي الشعبية.

حي السلالم

يمثل جغرافيا المدينة الصعبة، حيث تتدرج البيوت على سفح الجبل، والشوارع فيها ضيقة متعرجة، ويشعر الزائر وكأنه يسير بين صفحات كتاب تاريخي مفتوح.


حكايات شعبية وأمثال سلطية

السلط غنية بالحكايات الشعبية التي توارثتها الأجيال:

  • تقول الأسطورة إن إحدى العائلات السلطية كانت تحتفظ بمفتاح سرّي يؤدي إلى بئر ماء عذب في وسط المدينة، وكان يُستخدم لمساعدة المحتاجين.
  • من الأمثال الشعبية: “اللي يعيش بالسلط يشوف الجمال بكل مكان”، ويعكس هذا المثل تقدير أهل المدينة للطبيعة المحيطة بهم وجمال بيئتهم.

التعليم والريادة: السلط مدينة العقول

السلط لعبت دورًا محوريًا في مجال التعليم الأردني:

  • مدرسة السلط الثانوية: أول مدرسة ثانوية في الأردن، أسست عام 1923.
  • جامعة البلقاء التطبيقية: من أبرز الجامعات الأردنية، وتستقطب آلاف الطلاب من مختلف أنحاء المملكة.
  • دور المكتبات والمراكز الثقافية التي تتيح للطلاب والباحثين الاطلاع على التراث والمخطوطات القديمة.

التعايش الديني: نموذج التسامح

السلط مدينة التسامح الحقيقي، حيث تتواجد المساجد والكنائس جنبًا إلى جنب، ويشارك الناس بعضهم بعضًا في الأعياد والمناسبات. هذا التعايش جعل المدينة نموذجًا حقيقيًا للسلام الروحي، ومثالًا يحتذى به في المنطقة العربية.


الشخصيات السلطية البارزة

أنجبت السلط العديد من الشخصيات المؤثرة في تاريخ الأردن والمنطقة:

  • هزاع المجالي: رئيس وزراء الأردن السابق، الذي أسهم في تطوير البنية التحتية والتعليم.
  • توفيق أبو الهدى: رئيس وزراء سابق ومصلح سياسي بارز.
  • الأطباء والمعلمون الذين أسسوا مسيرة التعليم والصحة في الأردن.

السلط في الأدب الأردني والعربي

السلط حاضرة في الأدب الأردني، سواء من خلال الشعر النبطي أو الروايات التي تناولت تاريخ المدينة وتراثها. لقد ألهمت الشوارع الضيقة، والأسواق القديمة، والبيوت الحجرية العديد من الكتاب والشعراء لتخليد المدينة في نصوصهم الأدبية.


السلط بعد إدراجها في التراث العالمي

في عام 2021، أدرجت السلط على قائمة التراث العالمي لليونسكو، كمدينة تحافظ على تراثها العمراني والثقافي. هذا الاعتراف الدولي أكسب المدينة شهرة واسعة، وعزز جهود الحفاظ على البيوت القديمة، والأسواق، والشوارع التاريخية.


المستقبل والتحديات

اليوم تواجه السلط تحديات متعددة، أبرزها:

  • التوسع العمراني: مع ازدياد عدد السكان، تحتاج المدينة إلى خطط متوازنة تحافظ على التراث وتستوعب التطور العمراني.
  • الحفاظ على التراث: حماية البيوت الحجرية والأسواق القديمة من الإهمال.
  • تعزيز السياحة: تطوير البنية التحتية السياحية لجذب المزيد من الزوار.

ومع كل هذه التحديات، تبقى السلط مدينة نابضة بالحياة، تحتفظ بذاكرتها وروحها، وتعدّ مثالًا حيًا على التوازن بين الماضي والحاضر.


جامعة البلقاء التطبيقية: منارة العلم في قلب السلط

في قلب مدينة السلط، حيث تتعانق الجبال مع التاريخ، وتتناغم الأزقة الضيقة مع أصوات الأذان، تقع جامعة البلقاء التطبيقية، صرح علمي يروي قصة تطور التعليم العالي في الأردن.


التأسيس والنشأة

تأسست جامعة البلقاء التطبيقية في عام 1997، بموجب الإرادة الملكية السامية، لتكون جامعة حكومية تهدف إلى تقديم التعليم التطبيقي والتقني. بدأت الجامعة مسيرتها الأكاديمية في العام الجامعي 1997/1998، ومنذ ذلك الحين أصبحت مركزًا علميًا مرموقًا في المملكة.


الموقع الجغرافي

تقع الجامعة في مدينة السلط، على بُعد حوالي 30 كيلومترًا شمال غرب العاصمة عمان. تتميز المدينة بموقعها الجغرافي الفريد، حيث تحتضنها الجبال وتزينها الأشجار، مما يوفر بيئة تعليمية هادئة ومناسبة للتفكير والإبداع.


الكليات والتخصصات

تضم جامعة البلقاء التطبيقية العديد من الكليات التي تقدم برامج دراسات بكالوريوس ودبلوم في مختلف التخصصات، منها:

  • كلية الهندسة: تقدم تخصصات مثل هندسة الحاسوب، هندسة نظم الحاسوب، هندسة المواد، والهندسة المدنية.
  • كلية العلوم الإنسانية: تقدم برامج في مجالات مثل اللغة العربية، التاريخ، وعلم النفس.
  • كلية تكنولوجيا المعلومات: تختص بتخصصات مثل علوم الحاسوب، نظم المعلومات، وتكنولوجيا الشبكات.
  • كلية العلوم التطبيقية: تقدم برامج في مجالات مثل الأحياء، الكيمياء، والفيزياء.
  • كلية الأعمال: تختص بتخصصات مثل إدارة الأعمال، التسويق، والمحاسبة.

التطور والإنجازات

منذ تأسيسها، حققت الجامعة العديد من الإنجازات على الصعيدين الأكاديمي والإداري. تمكنت من تطوير برامجها الأكاديمية لتواكب متطلبات سوق العمل، كما قامت بتحديث مرافقها لتوفير بيئة تعليمية متطورة.


مدينة لا تشيخ

السلط، تلك المدينة التي تعانق الجبال، وتهمس بذكريات الزمن، تبقى لوحة حية من الحجر والتاريخ والإنسان. في شوارعها الضيقة وأزقتها المتعرجة، تسمع صدى الخطوات القديمة، وتشم عبق البساتين التي طالما غنت للهواء نسمات عبقها.

في كل بيت قديم حكاية، وفي كل نافذة مطلة على الوادي، قصيدة لم تكتمل بعد. السلط مدينة تجمع بين الماضي والحاضر، بين الهدوء الطبيعي وصخب الحياة، بين التراث والحداثة.

وقد قال الشاعر الأردني جبران خليل جبران في إحدى قصائده عن الوطن والجبال:
“الجبال تعلمنا الصبر، والأودية تهمس بأسرار الزمن”
وهكذا هي السلط، جبل وصبر، ووديان وأسرار، مدينة تخلّد في الذاكرة قبل أن تُرى بالعين.

السلط، مدينةٌ تتنفس التاريخ وتغني بالذكريات، حيث الجبال تعانق السماء، والأزقة تهمس بأسرار الأزمان. هي لوحة فنية رسمتها الطبيعة بيدها، وزينتها يد الإنسان بحضاراته المتعاقبة.

في قصيدته الشهيرة “سلطي أنا”، يصف الشاعر الأردني الراحل سليمان عويس مدينته السلط قائلاً:

“سلطي أنا وحاكورتي فيها الشجرْ
هالطولْ ومسيّجهْ لوزْ وعنبْ والفستقهْ هالطولْ
فيها طواحينْ وعصافيرْ وحكايا…”

هذه الأبيات تعكس حب الشاعر العميق لمدينته، حيث يصفها بأنها مليئة بالخيرات والذكريات الجميلة.

أما الشاعر الأردني سليمان المشيني، فقد ألقى قصيدته “السلط” في مسقط رأسه، حيث قال:

“أُصمُدي للقَصْفِ يا سَلْطَ اصمُدي
واكْتُبي بالدَّمِ سَطْرَ السّؤددِ
وادفعي الأبطالَ مَهْراً للعُلى
بالضَّحايا .. صرح مجدٍ شَيِّدي
نحنُ إِنْ لم نحترق كيفَ السَّنا
يغمرُ الأُردنَّ في يومِ غَدِ”

هذه الأبيات تعبر عن صمود المدينة في وجه التحديات، وتأكيد على مكانتها الرفيعة في تاريخ الأردن.

وفي قصيدته “أنا السلط”، تقول الشاعرة فوزية ضيف الله:

“أنا السلط
حرّة بلا مرافىء
شامخة كالجبال
أنا السلط
سفوحي..بيوت تعانقت
بيوتي محبات تآلفت
أنا مدينة الأبواب
على ترابي تصالحت كنائس وجوامع
وفي سمائي تعانقت صوامع وقباب”

هذه الأبيات تبرز تنوع المدينة وتعايش مكوناتها المختلفة بسلام ووئام.

وأخيرًا، في قصيدته “السلط”، يقول الشاعر التونسي أحمد شاكر بن ضية:

“هل ينفع الشعر فيما أبدع القدرُ
والشعر في جنّة الأردنّ يُختصر
ماذا يقالُ لأرض الطيب من كلمٍ؟
والأهل قولهمُ فيها شذى عطِرُ
حياكم الله، يا أردنّ يا بلدا
يعلو الشموخ به والحق ينتصرُ”

هذه الأبيات تعبر عن إعجاب الشاعر التونسي بالسلط وجمالها، وتأكيد على مكانتها في قلب كل محب للأردن.

السلط، مدينةٌ لا تشيخ، ولا يذبل فيها عبق التاريخ، ولا يفنى فيها جمال الإنسان وروح المكان. من يزورها، يشعر وكأن قلبه أصبح جزءًا من هذا الجبل، وكل أنفاسه امتداد لنسيمها العذب، وكل خطواته نغمة في لحن المدينة الأبدي.

السابق
رحلة في عالم سيهار الساحرة الزرقاء
التالي
المكتبات العربية صروح المعرفة وحفظ التراث بين الماضي والحاضر