اقرأ معنا

جسمك يتذكر كل شيء

قد نعتقد أننا قادرون على تجاوز ماضينا، أن الذكريات المؤلمة لا بد أن تُدفن مع مرور الوقت. غير أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير: ما لا يشفى في النفس يستقر في الجسد. هنا، يطل علينا كتاب “جسمك يتذكر كل شيء” ليعيد تعريفنا بعلاقتنا مع أجسادنا، وليكشف لنا أن الذاكرة ليست حكرًا على الدماغ، بل هي نقش حي محفور في كل خلية من خلايانا.

هذا العمل الفريد الذي ألفه باسيل فان در كولك، الطبيب النفسي الهولندي-الأمريكي، يُعد واحدًا من أهم المراجع الحديثة في فهم الصدمات النفسية وكيفية تأثيرها على الجهاز العصبي والأعضاء الحيوية والسلوك الإنساني. إنه كتاب لا يكتفي بالتحليل، بل يفتح أبوابًا جديدة نحو الشفاء، ويقترح مسارات علاجية مبتكرة تستند إلى التكامل بين الجسد والعقل.


نبذة عن الكاتب

باسيل فان در كولك (Bessel van der Kolk) طبيب نفسي وباحث عالمي في مجال الصدمات النفسية واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). وُلد عام 1943 في هولندا، وانتقل لاحقًا إلى الولايات المتحدة حيث برز اسمه كأحد أهم الأصوات في علاج الصدمات.

  • شغل منصب أستاذ الطب النفسي في جامعة بوسطن.
  • أسس “مركز علاج الصدمات” (Trauma Center) الذي أصبح مرجعًا عالميًا.
  • نشر العديد من الدراسات التي غيرت النظرة الطبية إلى الاضطرابات النفسية.

ما يميز فان در كولك هو أنه لم يكتفِ بالنظريات، بل جمع بين العلم والإنسانية، واستند إلى خبرته السريرية الطويلة مع المرضى الذين عانوا من صدمات الحرب، الاعتداء، العنف الأسري، وغيرها. ومن هنا جاء كتابه الأشهر:
“The Body Keeps the Score” (جسمك يتذكر كل شيء).

اقرأ أيضا : جنون النساء وغباء الرجال: قراءة في العلاقات الإنسانية


فكرة الكتاب الأساسية

يرتكز الكتاب على أطروحة محورية:
الصدمات النفسية لا تختفي مع مرور الوقت، بل تُخزن في الجسد وتعيد تشكيل حياتنا بشكل عميق.

حين يتعرض الإنسان لحدث صادم، فإن الجهاز العصبي يتعامل معه كتهديد دائم، حتى بعد انتهائه. العقل قد يحاول نسيانه، لكن الجسد يظل أسيرًا له:

  • في شكل توتر عضلي.
  • اضطرابات في النوم.
  • أمراض مزمنة غير مفسرة طبيًا.
  • نوبات قلق أو هلع.

الجسد إذن ليس شاهدًا صامتًا، بل شريك في حمل الذاكرة. وهنا يقول الكاتب:
“الجسد يحتفظ بما لا يستطيع العقل تحمله.”


هيكل الكتاب

الكتاب مقسم إلى أجزاء متكاملة، كل منها يفتح نافذة على جانب من جوانب الصدمة:

  1. فهم الصدمة: يقدم فيه الكاتب تعريفًا علميًا وعمليًا لماهية الصدمة النفسية.
  2. العقل والجسد: يوضح فيه كيف تؤثر الصدمة على الدماغ والجهاز العصبي.
  3. الطرق التقليدية للعلاج: يشرح حدود العلاج بالكلام وحده.
  4. المداخل الجديدة: يطرح فيها مقاربات علاجية تعتمد على اليوغا، العلاج الجسدي، المسرح، والعلاقات الإنسانية الداعمة.

أهم الأفكار والدروس المستفادة

  1. الذاكرة الجسدية أقوى من الذاكرة العقلية: حتى لو نسينا بوعينا، يظل الجسد يعيش الصدمة.
  2. العلاج بالكلام غير كافٍ: إذ لا يكفي أن نسرد القصة، بل يجب إعادة تدريب الجهاز العصبي على الأمان.
  3. الأمان أساس الشفاء: لا يمكن للإنسان أن يتعافى إلا إذا شعر بجو من الأمان العاطفي والجسدي.
  4. العلاقة بين الصدمات والأمراض الجسدية: كثير من الأوجاع المزمنة مرتبطة بتجارب صادمة لم تُحل.
  5. الفن والحركة أدوات علاجية: المسرح، الرقص، التنفس، واليوغا أثبتت فعاليتها في تحرير الجسد من قيود الذاكرة المؤلمة.

أسلوب الكاتب

ما يميز فان در كولك هو مزيج الصرامة العلمية مع الدفء الإنساني. فهو يكتب بلغة بسيطة رغم عمق الطرح، ويكثر من القصص الحقيقية لمرضاه، مما يجعل القارئ يعيش تجربة واقعية وليست مجرد نظرية.
كما أن أسلوبه لا يترك القارئ غارقًا في الحزن، بل يمده بخيوط الأمل، مؤكدًا أن الشفاء ممكن مهما كان الألم عميقًا.


اقتباسات مؤثرة من الكتاب

  • “الصدمة ليست ما حدث لنا في الماضي، بل ما يستمر بالعيش في حاضرنا.”
  • “يمكنك إنكار ما تشعر به، لكن جسدك سيتحدث بالنيابة عنك.”
  • “العلاقات الآمنة هي الدواء الأكثر فعالية ضد الصدمات.”
  • “لا يمكننا التفكير في طريقنا للخروج من الصدمة، بل يجب أن نشعر في طريقنا نحو الحرية.”
  • “الجسد يحتفظ بالحسابات بدقة، حتى يأتي اليوم الذي نقرر فيه الإصغاء.”
  • “الحرية تبدأ عندما نسمح لأنفسنا أن نسمع صرخة الجسد بدل أن نكتمها.”

تحليل نقدي

نقاط القوة:

  • الكتاب ثري بالبحث العلمي والقصص الواقعية.
  • يكشف العلاقة الخفية بين الجسد والنفس.
  • يقدم حلولًا علاجية مبتكرة تتجاوز حدود الدواء والكلام.

نقاط الضعف:

  • طوله وكثافة المعلومات قد يرهقان القارئ العادي.
  • بعض الأمثلة قد تكون ثقيلة على من لم يعايش تجارب مشابهة.

لكن رغم ذلك، يبقى الكتاب من أهم المراجع النفسية الحديثة وأكثرها تأثيرًا.

اقرأ أيضا : “أنت قوة مذهلة” – جين سينسيرو


لمن يُنصح بقراءته؟

  • لمن مرّ بتجارب صادمة ويريد فهم نفسه.
  • للمهتمين بالعلاج النفسي والطب النفسي.
  • للمعالجين والمتخصصين في الصحة النفسية.
  • ولكل قارئ يبحث عن وعي أعمق بجسده وعلاقته بماضيه.

رأيي الشخصي

بالنسبة لي، كان هذا الكتاب بمثابة مرآة. كل صفحة منه حملت ضوءًا على زاوية مظلمة في فهمي للعلاقة بين العقل والجسد. أكثر ما أثر فيّ هو إصرار الكاتب على أن الشفاء ليس مستحيلاً، بل هو رحلة تبدأ بالإصغاء.

شعرت أن الكتاب يخاطبني مباشرة، يعلمني أن الألم الذي حاولت إنكاره لا يزال موجودًا في نبضي، في طريقة جلوسي، في توتري غير المبرر. ومع ذلك، منحني الأمل بأن هذه الذاكرة يمكن أن تتحرر إذا منحتها الإصغاء والرعاية.


كتاب “جسمك يتذكر كل شيء” ليس مجرد مرجع علمي، بل هو نافذة تُطل منها على أعماقك. إنه يذكرك بأن الصدمات ليست ماضٍ عابر، بل هي أثر باقٍ يحتاج إلى شجاعة في مواجهته ووعي في التعامل معه. هذا الكتاب علّمني أن أجسادنا ليست أوعية صامتة، بل هي رواة صادقون لحكايات لم نجرؤ على قولها، وأن الألم الذي نهرب منه هو نفسه الدليل الذي يقودنا نحو التحرر.

وأكثر ما يلمس القلب أن الكاتب لا يترك القارئ عالقًا عند جراحه، بل يمد يده ليقول: هناك طريق، وهناك أمل. فالتعافي ليس حلمًا بعيدًا، بل هو عملية تبدأ بخطوة صغيرة: أن نصدق أن أجسادنا لا تخوننا، بل تحاول حمايتنا بطريقتها الخاصة. حين نفهم هذه اللغة، نصبح أقدر على التصالح مع ذواتنا، وعلى بناء علاقات أعمق وأكثر صدقًا مع الآخرين.

يمكنني القول بثقة إن هذا الكتاب من الكتب النادرة التي لا تُقرأ لمرة واحدة، بل يعود إليه القارئ مرارًا ليكتشف في كل مرة معنى جديدًا. إنه كتاب سيُرافقك كصديق حكيم، يذكرك دائمًا أن الحرية تبدأ حين نتوقف عن إنكار ألمنا، ونسمح لأنفسنا بأن نشعر، ونعيش، ونتنفس بعمق.


التقييم النهائي

  • اسم الكتاب: جسمك يتذكر كل شيء (The Body Keeps the Score)
  • اسم الكاتب: باسيل فان در كولك (Bessel van der Kolk)
  • عدد الصفحات: حوالي 450 صفحة (بحسب الطبعة)
  • الفئة: علم نفس – تطوير ذات – صحة نفسية وجسدية
  • اللغة: مترجم للعربية (الأصل بالإنجليزية)
  • الموضوع: الصدمات النفسية وتأثيرها على الجسد والعقل وطرق الشفاء
  • التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ (5/5)

✦ في النهاية، هذا الكتاب من النوع الذي يُقرأ أكثر من مرة، لأنه لا يكشف لك عن الصدمة فقط، بل يكشف لك عن نفسك. إنه دعوة للجرأة على الإصغاء، لأن الجسد يتذكر كل شيء، حتى ما نحاول نسيانه.

السابق
كنيسة المشبك: تحفة معمارية صامدة في قلب سوريا
التالي
رحلة في عالم سيهار الساحرة الزرقاء