حين يلتقي القارئ لأول مرة بعنوان “رجال في الشمس”، يتولد لديه شعور بالفضول: من هم هؤلاء الرجال؟ ولماذا في الشمس تحديدًا؟
العنوان بذاته ليس مجرد بوابة لعمل أدبي، بل هو صرخة احتجاجية محمّلة بالرمزية، إذ أن الشمس هنا تتحول إلى مسرح للمأساة والخذلان والهزيمة الجماعية.
غسان كنفاني، هذا الأديب الفلسطيني الذي لم يتجاوز عمره الستة والثلاثين عامًا، ترك لنا أعمالًا لا تُنسى، وكان في “رجال في الشمس” يكتب أولى صيحاته الروائية، التي خرجت من رحم النكبة الفلسطينية ومن وجع الشتات، لتتحول إلى علامة فارقة في الأدب العربي.

الرواية ليست مجرد حكاية ثلاثة رجال فلسطينيين يحاولون عبور الحدود بحثًا عن حياة أفضل، بل هي سردية مكثفة عن الضياع والخذلان الجمعي والبحث عن الخلاص الفردي وسط الخراب الجماعي.
Contents
الحبكة الأساسية
تقوم الرواية على قصة ثلاثة فلسطينيين مشردين:
أبو قيس: الرجل الكبير الذي فقد أرضه وبيته.
أسعد: الشاب الذي يبحث عن فرصة عمل وحياة أفضل.
مروان: الفتى الذي أثقلته مسؤوليات عائلية بعد تخلي والده عنهم.
يجمعهم حلم مشترك: عبور الحدود من العراق إلى الكويت للعمل، عبر التهريب داخل صهريج ماء يملكه أبو الخيزران، السائق الذي يتكفل بإيصالهم.
لكن الرحلة التي بدأت بالأمل تنتهي بالفاجعة، إذ يموت الثلاثة داخل الصهريج من شدة الحرارة والعطش، فيما يكتفي أبو الخيزران بركل الصهريج وهو يصرخ:
«لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!»
هذه الصرخة الخالدة تختصر المأساة كلها، فهي ليست مجرد سؤال لشخوص الرواية، بل هي سؤال للأمة العربية بأسرها، سؤال عن الصمت، عن الاستسلام، عن غياب المقاومة.

الرمزية في الرواية
غسان كنفاني لم يكتب نصًا مباشرًا سياسيًا أو خطابيًا، بل وظف الرمزية ببراعة.
الصهريج: يمثل القبر الجماعي، أو الوطن الضيق الذي يخنق أبناءه.
الشمس: تجسد القسوة، والقدر المحتوم، والحرارة التي تعري هشاشة الإنسان أمام المصير.
الصمت: هو الاستسلام المميت، حيث لم يدق الرجال جدران الخزان ولم يطالبوا بالحياة.
إن هذه الرموز لا تخص فقط الفلسطينيين، بل تمتد لتطال الإنسان العربي الذي يعيش في دائرة القهر والصمت.
تحليل الشخصيات
أبو قيس
هو الأكبر سنًا، رمز لجيل النكبة الأول، الجيل الذي اقتُلِع من أرضه وظل يعيش على أطلالها.
يقول كنفاني على لسانه:
«كان قلبه يتدحرج كحجر في وادٍ سحيق.»
أبو قيس شخصية مليئة بالحزن والانكسار، يحلم فقط ببيت صغير يعيد له شيئًا من معنى الاستقرار، لكنه يجد نفسه يُساق إلى موت صامت داخل خزان معدني.
أسعد
يمثل الطموح الفردي الممزوج بالأنانية، إذ كان يحاول النجاة بنفسه قبل أي شيء آخر. هو صورة عن الجيل الذي يبحث عن ذاته بعيدًا عن هموم الجماعة.
مروان
هو الأصغر، لكنه أكثرهم وعيًا بالمسؤولية، إذ يتحمل عبء أسرته بعد أن هجرهم والده. يمثل جيل الشباب الذي وُلد في الشتات ولم يعرف الوطن إلا كذكرى بعيدة.
أبو الخيزران
الشخصية الأكثر تعقيدًا في الرواية، رجل فقد رجولته في الحرب (حُرم من قدرته الجسدية)، وتحول إلى وسيط مهرب، يجسد صورة القيادات العربية المهزومة التي تتاجر بآلام شعوبها.
ثنائية الحياة والموت
الرواية تتأرجح بين الحلم بالحياة عبر الهجرة والبحث عن العمل، وبين القدر المحتوم بالموت داخل الخزان.
الحياة عند كنفاني ليست مجرد تنفس، بل هي كرامة وصوت وقدرة على المقاومة.
والموت ليس نهاية فردية، بل هو نتيجة طبيعية للصمت والاستسلام.
«لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!»
هذه العبارة لم تخرج عبثًا. إنها أشبه بوصية غسان كنفاني للأجيال، صرخة تنبيه وتحريض.
إنها تساؤل يتجاوز أحداث الرواية إلى الواقع العربي كله:
لماذا لم ندق جدران الاستعمار؟
لماذا لم ندق جدران الاستبداد؟
لماذا اخترنا الصمت بدل الصراع؟
إنها ليست صرخة على موت ثلاثة أشخاص، بل على موت روح المقاومة.
البنية الفنية للرواية
الرواية قصيرة نسبيًا، لكنها مكتنزة بالدلالات.
اللغة: بسيطة لكنها مكثفة بالرمز.
السرد: يتنقل بين الماضي والحاضر ليكشف دوافع الشخصيات.
الحوار: قليل لكنه جوهري، يعكس صراعًا داخليًا أكثر مما يعكس جدالًا خارجيًا.
غسان كنفاني استطاع أن يُنجز برواية لا تتجاوز المئة صفحة، ما لا ينجزه آخرون في مئات الصفحات.
البعد السياسي والاجتماعي
الرواية تجسد مأساة الفلسطينيين بعد النكبة، لكنها في الوقت ذاته تعكس واقع العرب في ستينيات القرن الماضي، حيث الهزائم والانكسارات.
هي رواية عن اللجوء والفقر والبحث عن فرصة، لكنها أيضًا عن التخلي والهزيمة الداخلية.
إنها نص يتجاوز حدود القضية الفلسطينية إلى قضايا الإنسان العربي عمومًا، لأنه يكشف جذور المأساة: الصمت، والخوف، والهروب من المواجهة.
البعد النفسي
كل شخصية تحمل جرحها النفسي الخاص:
أبو قيس: جرح الفقد والاقتلاع.
أسعد: جرح الطموح المقموع.
مروان: جرح المسؤولية المبكرة.
أبو الخيزران: جرح العجز وفقدان الرجولة.
هذا التنوع في الجروح يصنع لوحة إنسانية عميقة، تجعل الرواية ليست فقط عن السياسة، بل عن النفس البشرية في مواجهة الفقد.
تأثير الرواية
“رجال في الشمس” لم تكن مجرد رواية، بل تحولت إلى أيقونة أدبية وسياسية.
أثرت في أجيال كاملة من القراء والمثقفين، وتم تحويلها لاحقًا إلى فيلم سينمائي بعنوان “المخدوعون”.
حتى اليوم، ما زالت عبارة “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟” تتردد كصرخة أبدية، وكأنها لا تخص الماضي بل الحاضر أيضًا.
اقتباسات
1.«لقد كانت الشمس لا ترحم، تلهب الرمال، وتكاد تذيب الحديد.»
2.«كان قلبه يتدحرج كحجر في وادٍ سحيق.»
3.«لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!»
4.«حين يشتد العطش، يتساوى الماء بالحياة نفسها.»
5.«إن الخوف هو الذي يمنع الناس من أن يكونوا أحرارًا.»
هذه الاقتباسات القليلة تكفي لتدل على قوة النص وعمقه الإنساني والرمزي.

رواية “رجال في الشمس” ليست مجرد نص أدبي، بل هي صرخة وجودية وسياسية وأخلاقية.
هي دعوة لمواجهة الخوف، ورفض الصمت، وعدم الاستسلام للخذلان.
غسان كنفاني كتب روايته هذه وكأنه كان يرى بعينيه المستقبل: كان يرى أن الصمت أخطر من الموت، وأن الشعوب التي لا تدق جدران الخزان ستظل حبيسة موتها البطيء.
الرواية تصلح أن تُقرأ اليوم بنفس القدر من الأهمية الذي كانت عليه عند صدورها، لأن أسئلة الصمت والاستسلام لم تنتهِ بعد.
حين نعيد قراءة “رجال في الشمس” بعد مرور عقود على كتابتها، نشعر أنها لم تفقد شيئًا من راهنيتها.
بل ربما صارت أكثر حضورًا اليوم، في زمن تتكرر فيه المآسي ذاتها بأشكال مختلفة.
فالمخيمات ما زالت موجودة.
واللاجئون ما زالوا يبحثون عن حياة أفضل.
والعرب ما زالوا يتأرجحون بين صمت طويل وأصوات خافتة لا تكاد تُسمع.
غسان كنفاني لم يكن يكتب عن لحظة عابرة، بل عن مأزق وجودي شامل، عن إرادة البقاء التي تصطدم دائمًا بجدران الصمت والخوف.
والمأساة الكبرى ليست موت الرجال الثلاثة، بل أنهم لم يحاولوا حتى الدفاع عن حياتهم.
إنهم استسلموا للصمت داخل الخزان، وكأنهم رضوا بالموت، وكأن قدر الفلسطيني – وربما قدر الإنسان العربي – أن يعيش في صمت حتى النهاية.
لكن كنفاني لم يكتب هذه الرواية ليزيد من شعورنا باليأس، بل ليهز ضمائرنا.
لقد أراد أن يقول:
إذا لم ندق جدران الخزان، فسوف نموت جميعًا بصمت.
إذا لم نحاول المقاومة، فسوف يتحول الخزان إلى مقبرة أبدية.
الرواية بهذا المعنى ليست مجرد أدب، بل هي مشروع حياة.
هي وصية تقول لنا: لا تصمتوا، لا تستسلموا، قاوموا بأي طريقة، لأن الصمت موت بطيء.
ولعل أجمل ما يميز “رجال في الشمس” أنها تجمع بين الواقعية القاسية والرمزية العميقة. فهي رواية يمكن أن تُقرأ كقصة تهريب انتهت بفاجعة، لكنها أيضًا يمكن أن تُقرأ كنص عن الشعوب العربية كلها، عن الخوف الذي يخنقها، وعن صهاريج كثيرة ما زالت تنتظر أن تُدق جدرانها.
اليوم، ونحن نقرأ هذه الرواية، نشعر أننا نحن من في الخزان.
نحن الذين نعيش في حرارة الشمس اللاهبة، ونخشى أن نرفع أصواتنا.
ونحن أيضًا الذين نحتاج أن نسمع من جديد صرخة أبي الخيزران:
“لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟”
إن هذه العبارة لم تعد تخص ماضي 1963، بل تخص حاضر 2025، وربما مستقبل أبعد.
ولهذا تظل الرواية حيّة، عصية على الموت، لأنها تمس جوهر الإنسان العربي في كل زمان.
التقييم النهائي
📖 اسم الكتاب: رجال في الشمس
✍️ اسم الكاتب: غسان كنفاني
📄 عدد الصفحات: 109 صفحة تقريبًا
⭐ التقييم: 5/5 🌟🌟🌟🌟🌟
🏷️ الفئة المناسبة: الشباب، القراء المهتمون بالقضايا الإنسانية والسياسية
🌍 اللغة: العربية
🎯 الموضوع: اللجوء – الخوف – الصمت – المقاومة – الهزيمة