“عالم ليس لنا” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي شهادة حيّة، ومفتاح لفهم التجربة الفلسطينية في المنفى.
في هذه المجموعة، نرى الفلسطيني وهو يواجه جرحه المفتوح بعد النكبة، يعيش على هامش المدن العربية، ويحمل ذاكرة وطن مسلوب، وأملًا يتجدد رغم قسوة الواقع.
العنوان نفسه “عالم ليس لنا” يحمل دلالته الرمزية العميقة: نحن في عالم مكتظ بالبيوت، بالشوارع، بالمدن، لكنه ليس لنا. إنه عالم الآخرين، أما نحن فمجرد غرباء، عابرون على أطرافه.
حين نتحدث عن غسان كنفاني، فإننا لا نتحدث عن مجرد كاتب فلسطيني، بل عن وجدان أمة كاملة تجسّد في قلم رجل عاش الغربة والمقاومة، وحوّل الألم الشخصي والجماعي إلى أدب خالد.

Contents
القصص كمرآة للغربة
المجموعة تتكون من قصص قصيرة، تختلف في أحداثها وشخصياتها، لكنها تتوحد في الهمّ الأساسي: الغربة والاقتلاع.
كل قصة تبدو وكأنها مرآة صغيرة تعكس زاوية من مأساة كبيرة. أحيانًا نقرأ عن رجل يبحث عن لقمة عيش في بلد غريب، وأحيانًا عن لاجئ فقد عائلته، وأحيانًا عن شاب يحاول أن يجد لنفسه معنى في واقع لا يمنحه أي فرصة.
هذه القصص ليست مجرد أحداث روائية، بل هي وثائق إنسانية تكشف لنا تفاصيل الحياة اليومية للاجئ الفلسطيني بعد 1948. نرى كيف يعيش في المخيم، كيف يشعر بالخذلان من العالم، وكيف يحاول رغم كل شيء أن يتشبث بخيط أمل رفيع.
🔹 يقول كنفاني في إحدى قصصه:
“كنا نعيش في غرفة واحدة، ومع ذلك لم يكن المكان يضيق بنا، كان الذي يضيق هو ذلك الشيء الذي اسمه الغربة.”
هنا تتجلى عبقرية غسان: فهو لا يصف ضيق المكان المادي فقط، بل ضيق الروح، ضيق الانتماء، ضيق الهوية.
اقرأ أيضا : الشيء الآخر من قتل ليلى الحايك
الشخصيات: أبطال بلا بطولة
شخصيات “عالم ليس لنا” ليست من النوع البطولي التقليدي. هم أشخاص عاديون، بسطاء، مثقلون بالهموم، يعيشون على حافة الحياة.
لكن في بساطتهم هذه، وفي ضعفهم الظاهري، تكمن عظمتهم. إنهم يمثلون الإنسان الفلسطيني بكل هشاشته وصموده في آن واحد.
قد تجد شخصية رجل يعمل في مهنة بسيطة لكنه يظل يحلم بالعودة، أو امرأة فقدت الأمان لكنها ما زالت تتشبث بذكريات قريتها، أو طفلًا يسأل عن معنى الوطن ولا يجد إجابة.
🔹 في إحدى القصص نقرأ:
“سألني ابني: ما هو الوطن؟ فقلت له: هو المكان الذي لا نشعر فيه بالغربة. فقال: ولكننا نشعر بالغربة في كل مكان.”
هذا الحوار البسيط بين الأب وابنه يختصر مأساة جيل كامل

اللغة والأسلوب
لغة كنفاني هنا مشحونة بالعاطفة، لكنها في الوقت نفسه شديدة البساطة. لا يلجأ إلى الزخارف البلاغية أو الاستعارات الثقيلة، بل يكتب بصدق مباشر، يجعل القارئ يشعر أن الكلمات خرجت من قلب الجرح مباشرة.
الجمل قصيرة، متوترة، أحيانًا قاطعة مثل السكين. هذه البنية الأسلوبية ليست عفوية، بل مقصودة لتعكس التوتر النفسي للشخصيات، وضيق العالم الذي يعيشون فيه.
🔹 يقول:
“المنفى ليس أن تكون بعيدًا عن وطنك، بل أن تكون بعيدًا عن نفسك.”
جملة واحدة تختصر فلسفة كاملة عن الغربة والهوية.
الغربة كجدار نفسي
في “عالم ليس لنا”، الغربة ليست فقط انتقالًا جغرافيًا من مكان إلى آخر، بل هي جدار نفسي يفصل الإنسان عن العالم. اللاجئ الفلسطيني في هذه القصص يعيش في المدن العربية، يأكل ويشرب ويعمل، لكنه يشعر أن كل شيء حوله يرفضه.
إنها غربة مزدوجة: غربة عن الوطن المفقود، وغربة عن المجتمع الجديد الذي لا يمنحه اعترافًا كاملًا.
🔹 يقول كنفاني:
“نمشي في الشوارع، نشتري الخبز، نضحك، لكننا نعرف في أعماقنا أننا غرباء، وأن العالم كله ليس لنا.”
هذه الغربة هي التي تجعل الشخصيات دائمًا في حالة قلق وجودي، تبحث عن مكان لا تجده، عن هوية ضائعة، عن بيت لا وجود له إلا في الذاكرة.
الأمل وسط الرماد
ورغم قتامة الجو العام في المجموعة، إلا أن هناك خيطًا رفيعًا من الأمل يمر بين السطور. غسان كنفاني، رغم كل شيء، لم يكن كاتب يأس مطلق، بل كان يؤمن أن الغربة ليست نهاية المطاف، وأن العودة حتمية، حتى وإن تأخرت.
🔹 يقول:
“إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية العالم.”
هذه الجملة أصبحت أيقونة تتكرر في أدب كنفاني، وهي تلخص فلسفته: نعم، نحن مهزومون الآن، لكننا لسنا أمواتًا. ما زال هناك أمل يولد من رحم الألم.
البعد السياسي في النصوص
من يقرأ “عالم ليس لنا” قد يظن للوهلة الأولى أن هذه القصص مجرد حكايات شخصية، لكن ما إن يتعمق أكثر حتى يكتشف أن السياسة تنبض في كل سطر.
القصة الشخصية ليست إلا صورة مصغرة للقضية الكبرى: قضية شعب بأكمله حُرم من وطنه.
غسان كنفاني لم يكن كاتب شعارات سياسية، بل كاتبًا إنسانيًا جعل السياسة تتجلى من خلال الحياة اليومية. حين يصف معاناة لاجئ في بيروت أو دمشق، فهو لا يصف فردًا فقط، بل يصف مأساة جماعية.

رمزية العنوان
العنوان “عالم ليس لنا” هو بمثابة مفتاح لفهم كل المجموعة.
إنه يصف ببساطة حقيقة وجود اللاجئ: يعيش في العالم، لكنه ليس جزءًا منه. العالم موجود، مزدحم بالحياة، لكنه بالنسبة للفلسطيني مجرد مسرح خارجي لا يُسمح له بالدخول إليه كفاعل، بل كمتفرج منسي.
هذا العنوان يلخص الإحساس العام للشخصيات: الاغتراب، العزلة، الهامشية. إنه ليس مجرد عنوان أدبي، بل بيان سياسي ونفسي في آن واحد.
اقرأ أيضا : عائد إلى حيفا رواية الذاكرة الجريحة
أثر المجموعة في الأدب العربي
“عالم ليس لنا” تعتبر من أهم المجموعات القصصية في الأدب الفلسطيني والعربي.
لقد أسست لنمط جديد من الكتابة، يمزج بين الواقعية السياسية والبعد الإنساني العميق.
كما أنها وضعت غسان كنفاني في مصاف كبار كتّاب القصة العربية، إلى جانب يوسف إدريس وزكريا تامر وغيرهم.
النقاد رأوا في هذه المجموعة “صرخة جيل بأكمله”، وهي بالفعل كذلك: شهادة على النكبة وما تلاها، وعلى جيل عاش المنفى كقدر مفروض عليه.
رأيي الشخصي
بالنسبة لي، “عالم ليس لنا” ليست مجرد كتاب قرأته، بل تجربة روحية عشتها.
كل قصة كانت جرحًا صغيرًا يُفتح في داخلي، يذكرني بمعنى الوطن، وبمعنى أن يكون لك بيت تنتمي إليه.
شعرت أن هذه القصص لا تخص الفلسطيني وحده، بل تخص كل إنسان عرف معنى الغربة.
أكثر ما هزني هو قدرة غسان على اختزال المأساة في مشاهد بسيطة جدًا: رجل يأكل رغيفًا من الخبز اليابس، طفل يسأل عن معنى الوطن، امرأة تجلس صامتة قرب نافذة لا تطل على شيء.
هذه التفاصيل الصغيرة كانت أكثر فاعلية من أي خطاب سياسي طويل.
اقتباسات مختارة
🔹 “قد لا يكون الوطن في الأرض، لكنه في القلب، القلب الذي يرفض أن يسكن في أي مكان آخر.”
🔹 “الغربة ليست أن تبتعد عن أهلك، بل أن تعيش بينهم وتشعر أنهم ليسوا لك.”
🔹 “نموت كي يعيش الوطن، ويعيش من بعدنا، لكنه حين يموت، لا نجد لأنفسنا ميتة تليق بنا.”
🔹 “الوطن هو ألا يحدث هذا كله.”

التقييم النهائي 📖⭐
اسم الكتاب: عالم ليس لنا
اسم الكاتب: غسان كنفاني
عدد الصفحات: 130 صفحة تقريبًا (حسب الطبعة)
التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ (5/5)
الفئة المناسبة: القراء المهتمون بالقضية الفلسطينية، والأدب الإنساني العميق، وكل من يريد أن يفهم معنى الغربة.
اللغة: العربية (مترجم لاحقًا إلى لغات عديدة)
الموضوع: الغربة، المنفى الفلسطيني، فقدان الوطن، الهوية، الأمل وسط الألم.