Contents
مدخل إلى استراتيجية الحياة
يُعدّ كتاب “الحياة رقعة شطرنج“ (2012) للكاتب والمحاضر المصري كريم الشاذلي أحد أبرز الأعمال في مجال التنمية الذاتية المعاصرة، ليس فقط لمحتواه الغني، بل لمنهجه المبتكر في مقاربة مفاهيم النجاح والتخطيط. ينجح الشاذلي ببراعة في استخدام لعبة الشطرنج، تلك اللعبة الملكية العريقة التي تجمع بين الفن والحساب والاستراتيجية، كـإطار مجازي متكامل لاستعراض مجموعة من القواعد والاستراتيجيات الحياتية.
المحور الأساسي الذي يدور حوله الكتاب هو فكرة أن الحياة ليست مجرد تفاعلات عشوائية، بل هي سلسلة متصلة من القرارات التي يجب اتخاذها بوعي وحكمة، تماماً كما تقتضي لعبة الشطرنج. يُطلق الشاذلي دعوة صريحة للقارئ للانتقال من موقع الضحية المرتجلة إلى موقع اللاعب الاستراتيجي الذي يقرأ المستقبل ويضع الخطط ويُحسب حساب كل حركة.
يُقدم الكاتب 18 استراتيجية أساسية يراها ضرورية لتحقيق “الكش ملك” في معركة الحياة. ولا يكتفي بتقديم النصائح الجاهزة، بل يستمد عمق الرؤية من القصص الملهمة، والتجارب الشخصية، والأمثلة التاريخية، مما يمنح الكتاب ثقلاً وإقناعاً أكبر.
التخطيط الداخلي وبناء الذات
يرى الشاذلي أن الخطوة الأولى نحو الانتصار على رقعة الحياة تبدأ من الداخل؛ أي من بناء الثقة بالذات، وفهم القيمة الحقيقية للوجود البشري. هذه المرحلة أشبه بترتيب قطع الشطرنج وتحديد دور كل قطعة قبل بدء اللعب.
أ. اكتشاف القوة الكامنة (البيادق التي تحلم بالترقية)
يُسلط الكاتب الضوء على مفهوم القيمة الذاتية والرفض المطلق للتقليل من قدرات الإنسان وإمكاناته. فالإنسان، حسب رؤيته، ليس مجرد بيدق عادي، بل هو خليفة خُلق لإعمار الأرض، وهذه المكانة تفرض عليه التميز والسعي نحو العظمة. هو يدعو القارئ إلى التوقف عن الأسئلة المنهزمة (“من أنا حتى أكون؟”) والبدء في الأسئلة المُمكنة (“ما الذي يمكنني أن أكونه؟”).
وهذا ما يؤكده في هذا الاقتباس القوي:
“كلنا يسأل نفسه في انكسار من أنا حتى أكون متميزاً ولامعاً، وعظيماً؟ وكان الأجدر بنا أن نسأل: ما الذي لا نصلح أن نكونه؟ إننا نصلح لكل شيء. إنك خليفة الله في الأرض، وتقليلك الدائم من شأن نفسك لا يصب في خدمة العالم الذي خُلقت من أجل إعماره.”
ب. استثمار الوقت والفرص (حركة الحصان الفريدة)
يعتبر الشاذلي الوقت هو عملة الحياة الأثمن، ويرفض فكرة إهداره في “اللا شيء”. هو يشبهه بـقطعة الحصان في الشطرنج، التي تتحرك بحركة فريدة ومختلفة (شكل L)، وعلى اللاعب أن يتعلم كيف يستغل هذه الحركات غير المألوفة لتحقيق السبق. هو يدعو إلى تحويل الأوقات الضائعة إلى استثمار حقيقي في تطوير الذات. كما يؤكد على أن الفرص لا تأتي مصادفة، بل هي نتيجة للتحضير والجهد، وكأنها نتيجة لتوقع حركة الخصم.

اقرأ أيضا : مراجعة كتاب “حديث الصباح”
التخطيط الخارجي وإدارة المعركة
ينتقل الكاتب إلى كيفية تطبيق الاستراتيجيات على أرض الواقع، وكيفية التعامل مع الخصوم والتحديات والمواقف الصعبة التي تمثل “نقلات” مفاجئة في اللعبة.
ج. فن التعامل مع الخصوم (قاعدة الخصم القوي)
في الشطرنج، لا يمكنك أن تربح بدون خصم. هذا هو المبدأ الذي ينطلق منه الشاذلي للتأكيد على أن التحديات والخصوم هي أدوات بناء أساسية. إنهم ليسوا أعداءً يجب إبادتهم فحسب، بل هم مرايا تكشف لنا نقاط ضعفنا وثغراتنا التي لم نكن لنراها لو لم نتعرض للضغط.
ويوضح الكاتب هذه النظرة الإيجابية للصعاب بقوله:
“الخصم القوي هو الذي يكشف الثغرات التي توجد في خططك، هو الذي يسخر من أوهامك وادعاءاتك فيعيدك إلى النظر فيها، هو الذي يصنع المستحيل كي يُظهرك على حقيقتك، فتستفيد منه بقدر ما تتألم من ضرباته الموجعة.”
د. أهمية التركيز وتحديد الهدف (نظرية “النقلة الواحدة”)
يُحذر الكتاب من فخ التشتت، ويدعو إلى التركيز على هدف واحد أساسي في كل مرحلة، تماماً كما يركز لاعب الشطرنج على تنفيذ خطة محددة عبر سلسلة من النقلات. هو يرى أن النجاح هو تراكم لنجاحات صغيرة ومتتابعة، وليس قفزة واحدة عملاقة. يجب أن تكون كل حركة (نقلة) على رقعة الحياة محسوبة وتخدم الهدف الأكبر.
وهنا يؤكد على قيمة القرارات الجريئة:
“لا تقلل من شأن القرارات التي تتخذها الآن، لأن ما تفعله اليوم هو بالضبط ما يحدد من ستكون عليه غداً، إن الحياة هي مجموع القرارات التي تتخذها، فإما أن تكون لاعباً محترفاً أو متفرجاً بائساً.”
هـ. فن التضحية والتحمل (قاعدة الكفاءة والقدرة)
من أهم التكتيكات في الشطرنج هي التضحية، حيث يتخلى اللاعب عن قطعة ثمينة للحصول على ميزة استراتيجية أكبر لاحقاً. يطبق الشاذلي هذا المبدأ على الحياة؛ فالنجاح يتطلب تضحية بالراحة أو الوقت أو بعض المتع الآنية في سبيل هدف مستقبلي أعظم. كما يعزز مفهوم التحمل والصبر، مذكّراً القارئ بأن الصعاب لا تفرض علينا إلا بمقدار طاقتنا، وهو استناد ديني لتعزيز القوة النفسية.
في هذا الصدد، يعطي جرعة من اليقين:
“أنا أؤمن أن لا شيء يحدث لي في الحياة يفوق قدرتي على التحمل، وليس هذا ادعاء مغرور، وإنما هو إيمان بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.”
البنية السردية والعمق الفكري
ما يميز “الحياة رقعة شطرنج” عن كثير من كتب التنمية الذاتية هو البنية السردية المتقنة التي لا تعتمد فقط على الأسلوب الوعظي المباشر، بل تستخدم الأدوات الأدبية والرمزية بذكاء.
و. توظيف الرمزية وتجسيد الأفكار
نجح الشاذلي في تجسيد المفاهيم المجردة (مثل التخطيط، والمرونة، والثقة بالنفس) في هيئة قطع الشطرنج (المَلِك، الوزير، الحصان، البيدق)، مما يجعل هذه المفاهيم أكثر رسوخاً وقرباً من ذهن القارئ. على سبيل المثال، يمثل “الوزير” القوة والحرية الكبيرة في الحركة، ولكنه أيضاً الأكثر عرضة للخسارة، مما يرمز إلى أن القوة العظيمة تتطلب حذراً أعظم. بينما يمثل “الملك” الهدف الأسمى الذي يجب الحفاظ عليه بأي ثمن، وهو ما يوازي في الحياة المبادئ الأساسية والهوية والنزاهة التي لا يجوز التضحية بها.
ز. الجمع بين العقلانية والروحانية
يتميز أسلوب كريم الشاذلي في هذا الكتاب بـالتوازن الدقيق بين الدعوة إلى التفكير العقلاني والمنطقي (مثل التخطيط وحساب النقلات) وبين التأكيد على الجانب الروحي والإيماني. هذا التوازن يجعل الكتاب مقبولاً ومؤثراً لدى شريحة واسعة من القراء العرب، حيث يرى القارئ أن النجاح في الحياة ليس مجرد مجموعة من الحيل والخطوات المادية، بل هو نتاج جهد منظم مدعوم بإيمان عميق بالقدرة والتوكل.
يُشير الكاتب إلى أن الإيمان هو بمثابة “المَلِك الآمن” الذي يمنح اللاعب الهدوء والثبات اللازمين لاتخاذ القرارات الصعبة، والقدرة على تقبّل الهزائم المؤقتة دون انهيار.
اقرأ أيضا : “القوة مقابل الإكراه” رحلة في طاقة الوعي وتأثيره على الإنسان
الأثر على القارئ
يهدف الكتاب في نهاية المطاف إلى إحداث تحول جذري في نمط التفكير.
ح. الانتقال من رد الفعل إلى الفعل المخطط
أهم أثر للكتاب هو دفع القارئ للانتقال من حالة العيش بردود الفعل (التعامل مع المشاكل عند حدوثها فقط) إلى حالة الفعل المخطط له (توقع المشاكل واتخاذ خطوات وقائية استباقية). يصبح القارئ مدركاً أن حياته ليست خاضعة للصدفة أو الظروف، بل هي لوحة تخطيط يمكنه أن يرسم عليها مصيره بخطوات محسوبة.
ط. إضفاء القيمة على الهزيمة المؤقتة
في لعبة الشطرنج، قد تخسر قطعة أو تتلقى “كش” مفاجئاً، لكن المباراة لا تنتهي إلا بـ”كش ملك”. يعلمنا الشاذلي أن الإخفاقات في الحياة ليست نهاية الطريق، بل هي تضحيات استراتيجية أو دروس قاسية تجهزنا للنصر النهائي. كل “نقلة خاطئة” هي فرصة لتعميق الفهم الاستراتيجي. هذا التحول يغير نظرة القارئ للإخفاق، محولاً إياه من سبب للإحباط إلى وقود للتعلّم.
“لا تظن أن خططك ستسير دائماً كما رسمتها. بل تعلّم أن تكون مرناً كـ’الوزير’، قادراً على تغيير المسار والالتفاف حول العقبات، ولا تيأس من ‘كش’ مؤقت، فما دمت لم تتلق ‘كش ملك’ فإن المباراة لم تنته بعد.”
الخلاصة والتقييم النهائي
يُعد كتاب “الحياة رقعة شطرنج” عملاً قيماً ومحفزاً، فهو ليس مجرد مجموعة من النصائح التنموية، بل هو منهج متكامل للتفكير الاستراتيجي في الحياة. يقدم الشاذلي دليلاً عملياً وملموساً لكيفية إدارة الذات، والأهداف، والعلاقات، وحتى الإخفاقات، كل ذلك تحت مظلة إطار رمزي جذاب هو لعبة الشطرنج.
الكتاب يُنصح به بشدة لكل من يشعر بالتيه أو العشوائية في قراراته الحياتية، ولمن يبحث عن هيكلة لأفكاره وطموحاته. إنه نقطة انطلاق ممتازة نحو تبني عقلية اللاعب المحترف الذي يسيطر على رقعته بدلاً من أن تسيطر هي عليه.











