اقرأ معنا

الشيء الآخر من قتل ليلى الحايك

من يقرأ غسان كنفاني لا يقرأ رواية عابرة، بل يقرأ مرآة تمسك بروحه، وتضعه أمام أسئلة لم يكن يجرؤ على طرحها.
روايته “الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك؟” ليست مجرد سرد بوليسي عن جريمة قتل غامضة، بل هي غوص في أعماق الإنسان حين يواجه ضعفه، وخياناته، وأقنعته الكثيرة.
هنا، تتحوّل القصة إلى محكمة للضمير، حيث يصبح القارئ القاضي، والمتهم في الوقت ذاته.


بين العنوان والجوهر

منذ العنوان، يوحي كنفاني أن ثمة ما هو أعمق من مجرد جريمة قتل. “الشيء الآخر” هو ذلك الغامض الذي يتوارى خلف كل حقيقة، خلف كل وجه، خلف كل علاقة.
هل الشيء الآخر هو الجريمة؟ أم الخيانة؟ أم هو الإنسان حين يسقط أقنعته؟
العنوان يفتح الباب لتأويلات كثيرة، تجعل القارئ يتساءل: ماذا لو كان “الشيء الآخر” هو نحن؟


هندسة الرواية

تأتي الرواية على هيئة اعتراف طويل يقدّمه البطل، ذلك الرجل الذي يقف في زنزانته بعد الحكم عليه بالإعدام بتهمة قتل ليلى الحايك.
هنا لا نقرأ سرداً تقليدياً، بل نقرأ مونولوجاً داخلياً يمزج بين الحقيقة والخيال، بين التبرير والاعتراف، بين التلاعب بالوقائع ومحاولة إقناع القارئ ببراءته.
هذا الأسلوب يجعل القارئ شريكاً في التحقيق، يتتبع الخيوط، يحاول أن يفصل بين الصدق والكذب، ويشعر أحياناً أن كل شيء لعبة عقلية.


شخصية الراوي – المذنب البريء

الراوي هو رجل ناجح اجتماعياً وعملياً، لكنه ينهار أمام غواية الجسد والمال والسلطة.
منذ البداية، يحاول أن يرسم صورته كضحية، لكن التفاصيل التي يكشفها تدريجياً تفضح هشاشته الأخلاقية.
هو ليس قاتلاً بالمعنى المباشر فحسب، بل قاتلٌ لنفسه أولاً، حين سمح لشهواته أن تقوده إلى الحافة.

يقول في أحد اعترافاته:

“لم أكن أتصور أني سأقف هنا، أمام جدران هذه الزنزانة، أبحث عن مبرراتي كما يبحث الغريق عن قشة.”

الجملة تلخص مأساة إنسان يحاول عبثاً إنقاذ صورته أمام نفسه، أكثر مما يحاول إنقاذها أمام الآخرين.


شخصية ليلى الحايك – المرأة/اللغز

ليلى الحايك ليست مجرد ضحية جريمة قتل، بل هي أيقونة للغموض والفتنة.
تظهر في الرواية كأنها قادرة على تغيير مسار حياة من يقترب منها.
هي امرأة مسكونة بجمالها وسلطتها الأنثوية، لكنها أيضاً تجسيد للانكسار الداخلي والبحث عن معنى.

لم يكن حضورها حضوراً عادياً؛ كانت مرآة تكشف تناقضات البطل، وتدفعه إلى هاوية لم يكن يتخيلها.
إنها ليست مجرد امرأة جميلة، بل “شيء آخر”، كما يشير العنوان، ذلك الذي يتجاوز الجسد إلى اللغز، إلى السر، إلى المصير.


البنية النفسية للعمل

الرواية في جوهرها ليست تحقيقاً بوليسياً، بل تحقيقاً نفسياً.
البطل يحاكم نفسه أكثر مما يحاكمه القضاء، يحاور ضميره، ويصارع تاريخه الشخصي.
هنا يبرز براعة غسان كنفاني في الغوص في أعماق الإنسان، حيث يتحول النص إلى مرآة لقرائنا نحن:
كم مرة نكذب على أنفسنا؟
كم مرة نغطي جريمة داخلية بابتسامة خارجية؟


لغة غسان كنفاني

لغة كنفاني في هذه الرواية مشحونة بالتوتر، متوترة كخيط مشدود بين الصدق والكذب.
تأتي الجمل قصيرة أحياناً، كسكاكين تقطع الهواء، وتأتي طويلة في أحيان أخرى، كأنها أنفاس متلاحقة لرجل يلهث في سباق مع مصيره.

من أجمل ما كتب:

“الحقيقة ليست ما نقوله في المحكمة، ولا ما يكتبه الصحفيون. الحقيقة هي ما نخفيه في أعماقنا، ونموت ونحن نحمله معنا.”

هذه اللغة تمنح الرواية بعداً فلسفياً، يجعلها تتجاوز حدود القصة البوليسية إلى سؤال وجودي عميق.


الجريمة كرمز

جريمة قتل ليلى الحايك لا تُقرأ هنا كجريمة شخصية فقط، بل كرمز لسقوط الإنسان حين ينهار أمام ذاته.
هي جريمة الحب حين يتحول إلى شهوة، وجريمة الطموح حين يتحول إلى طمع، وجريمة الحقيقة حين تتحول إلى قناع.

القتل هنا ليس فعلاً جسدياً فحسب، بل هو قتل للبراءة، للثقة، للنقاء.
ولهذا، يشعر القارئ أن السؤال “من قتل ليلى الحايك؟” ليس عن هوية القاتل، بل عن السبب الأعمق الذي جعل القتل حتمية.


البعد الوجودي

كما في معظم أعمال كنفاني، يتجاوز النص الأحداث إلى الأسئلة الكبرى.
ماذا تعني الحرية؟
هل الإنسان سيد قراراته، أم أسير شهواته وظروفه؟
هل يمكن أن نهرب من ذواتنا حين نكون نحن القضاة والجلادين؟

البطل لا يواجه القضاء فقط، بل يواجه نفسه.
وفي هذا يكمن جوهر الرواية: المحاكمة الحقيقية ليست في قاعة المحكمة، بل في أعماق الروح.


البنية الزمنية للرواية

الزمن في الرواية ليس خطياً.
الاعترافات تقفز بين الماضي والحاضر، بين تفاصيل الجريمة وبين ذكريات البطل.
هذا التشظي يعكس تشظي الراوي نفسه، الذي يحاول أن يعيد بناء القصة كما يريد، لا كما حدثت فعلاً.
هنا تتشكل متاهة زمنية تجعل القارئ متورطاً: أيّ جزء صدق؟ وأيّ جزء تلفيق؟


القارئ كقاضٍ

عبقرية الرواية أن القارئ لا يبقى متفرجاً، بل يتحول إلى قاضٍ.
نحن من يقرر إن كان البطل مذنباً تماماً أم ضحية ظروف.
وهذا يجعل القراءة تجربة شخصية، تختلف من قارئ لآخر، كأن غسان أراد أن يضعنا جميعاً في مقعد المحكمة.


البعد الرمزي للعنوان – “الشيء الآخر”

الشيء الآخر هو ما لا يُقال.
قد يكون الحب حين يتلوث.
قد يكون الضمير حين يسكت.
قد يكون الحقيقة حين تختفي وراء الأقنعة.
العنوان نفسه يترك الباب مفتوحاً لتأويل لا ينتهي، وهذا سر من أسرار جمال النص.


غسان كنفاني والبعد الإنساني

المثير أن كنفاني، الذي عُرف بكتاباته السياسية الملتصقة بالقضية الفلسطينية، قدّم هنا عملاً مختلفاً ظاهرياً.
لكن، في العمق، يظل البعد الإنساني والسياسي حاضراً.
فما الجريمة سوى استعارة عن خيانة الإنسان لذاته، وما سقوط البطل سوى انعكاس لسقوط جيل كامل أمام إغراءات السلطة والمال.

اقرأ أيضا:مراجعة كتاب “حديث الصباح”


أثر الرواية على القارئ

حين تنتهي من الرواية، لن تسأل فقط: من قتل ليلى الحايك؟
بل ستسأل: ماذا عن حياتي أنا؟ ما “الشيء الآخر” في داخلي الذي أخفيه عن نفسي؟
هذه هي قوة الأدب العظيم، أنه لا يتركك كما كنت، بل يجبرك على مواجهة مرآتك الخاصة.


رواية “الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك؟” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي تجربة نفسية وفلسفية.
إنها نص عن الإنسان حين ينهار، عن القناع حين يسقط، عن الجريمة حين تصبح مرآة لخيانتنا الكبرى لأنفسنا.
أسلوب كنفاني هنا يجمع بين التشويق البوليسي والعمق الوجودي، ليمنحنا رواية متفردة في مساره الأدبي.

حين نغلق صفحات “الشيء الآخر”، ندرك أن غسان كنفاني لم يكتب مجرد رواية بوليسية تسرد تفاصيل جريمة غامضة، بل كتب نصاً عن الحقيقة المراوغة، عن الذات التي تختبئ خلف طبقات من التبرير والإنكار.
هذه الرواية ليست عن “من قتل ليلى الحايك؟” فقط، بل عن كل “ليلى” سقطت ضحية طمع أو خيانة أو ضعف بشري. هي عن الإنسان حين يهرب من مواجهة نفسه، فيكتشف متأخراً أن الهروب لم ينقذه، بل حوّله إلى أسير داخل جدران ذاته قبل جدران السجن.

إن البطل في الرواية ليس شخصاً بعيداً عنّا، بل هو انعكاس محتمل لكل قارئ، لهذا نشعر بالانجذاب والرفض في آن واحد. نكرهه لأنه خائن، ونشفق عليه لأنه ضعيف، ونرى فيه ملامح من أنفسنا حين نغرق في تناقضاتنا.
هنا تكمن عظمة غسان كنفاني، أنه جعلنا نقرأ اعترافاً شخصياً وكأننا نسمع همساً من داخلنا.

ولعل القيمة الأبدية لهذه الرواية أنها تذكّرنا بأن القتل قد لا يكون دائماً طعنة سكين أو طلقة رصاص، بل قد يكون كلمة خائنة، أو صمتاً جباناً، أو قراراً متسرعاً. وهكذا، نخرج من الرواية ونحن نحمل سؤالاً يلاحقنا: ما هو “الشيء الآخر” الذي قد يقتلنا نحن في النهاية؟

اقرأ أيضا :عائد إلى حيفا رواية الذاكرة الجريحة


التقييم النهائي 📖✨

اسم الكتاب: الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك؟

اسم الكاتب: غسان كنفاني

عدد الصفحات: حوالي 190 صفحة

اللغة: العربية

الفئة المناسبة: كل من يهتم بالأدب النفسي، الروايات البوليسية ذات البعد الفلسفي، عشاق الأدب العربي الحديث.

الموضوع: جريمة، خيانة، صراع نفسي، محاكمة الضمير.

التقييم: ⭐⭐⭐⭐✨ (4.5 من 5)


✦ رواية تعانق الغموض بالتحليل، والجريمة بالفلسفة، والإنسان بمرآته الداخلية. ✦

السابق
قصر ابن وردان: شاهد بيزنطي يجمع بين الإدارة والدين والدفاع في بادية حماة
التالي
عالم ليس لنا