هناك كتبٌ لا تُقرأ بالعين وحدها، بل تُقرأ بالقلب أيضًا و”حين تترنّح ذاكرة أمي” واحدة من تلك الروايات التي تقدّم للقارئ شيئًا يفوق الحكايةوالذاكرة … تقدّم تجربة كاملة من الحنين، والوجع، والقلق، والتأمل في هشاشة البشر أمام الزمن.
وهناك روايات تُفتح صفحاتها بخفّة، لكنّها تُغلق بثقل لا يشبه إلا ثقل التجربة الإنسانية المحمّلة بالألم، وبالخوف، وبالأسئلة التي لا نملك لها جوابًا وحين تترنح الذاكرة إحدى هذه الروايات .
هذه ليست رواية بالمعنى التقليدي، بل شهادة حيّة يدوّنها الطاهر بنجلون، وهو يرى أمّه تغوص تدريجيًا في العتمة الناعمة لداء الزهايمر، حتى يصبح الماضي شظايا متناثرة، والحاضر شريطًا ضبابيًا، والمستقبل سؤالًا يُخيف أكثر مما يعد.
إنها رواية عن الأمومة حين تصبح الذاكرة رقيقة، وعن البنوة حين يصبح الوجدان هشًّا، وعن محاولة الكتابة أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من إنسان ينساب بعيدًا ببطء.

Contents
الذاكرة تتعب والقلب يقاوم
منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه لا يقرأ رواية تتقدّم أحداثها ببطء، بل ذاكرة تتراجع ببطء.
يكتب الطاهر بنجلون من داخل التجربة، لا من خارجها. كأنّ القلم نفسه يتكيّأ على جدران البيت كي لا يسقط، تمامًا كما تتكئ الأم على ابنها كي لا تسقط في خطواتها الأخيرة نحو العجز.
يقول في أحد أكثر الاقتباسات المؤلمة:
“أمي تمشي، لكن الذاكرة لا تمشي معها.”
هذه الجملة وحدها تختصر الرواية — تختصر الانفصال العجيب بين الجسد الذي يحاول البقاء، والعقل الذي ينزلق شيئًا فشيئًا نحو الغياب.
يتعامل الكاتب مع هذا الانحدار بحساسية شاعر، لكنه أيضًا بعين ابنٍ خائف الخوف هنا ليس من الموت، بل من الموت الناعم الذي يسبق الموت الحقيقي: موت الذاكرة.
يتساءل في موضع آخر:
“كيف تحفظ قلبك من الانكسار، حين يكون الشخص الذي علمك الحنان هو نفسه الذي ينسى اسمك؟”
الكتابة هنا ليست ترفًا أدبيًا، بل فعل مقاومة.
هو يحاول أن يكتب كي يثبت أمّه على الورق، بعد أن أصبحت تتلاشى في الواقع.
يحاول أن يربط شظايا الذاكرة بالخيط الوحيد الذي لم ينقطع: الحب.
ومع كل صفحة، يشعر القارئ بأن الأم ليست مجرد شخصية، بل هي أمّ كل من عرف معنى الخوف على أمّه، أو عاش لحظة ارتباك وهو يسمع سؤالًا بسيطًا يخرج من فمها:
“من أنت؟”
هذه الرواية تمنح كل ابنٍ وابنة مرايا مؤلمة — مرايا يخاف المرء أن ينظر فيها، لكنه يعرف أنه لا بدّ أن ينظر… لأن الذاكرة لا تخصّ الفرد وحده، بل الأسرة كلها.
إنها حكاية عن الفقد الذي يحدث ونحن ما زلنا ممسكين بالأيدي.
المرض يسرق الذاكرة و الماضي
الزهايمر في هذه الرواية لا يأتي كمرض طبي، بل يأتي كقوة رمزية تلتهم التاريخ الشخصي.
أمّ الطاهر بنجلون ليست مجرد امرأة مسنّة، بل هي أرشيف عائلة، حامل لزمن كامل من التقاليد، والحوارات، والمشاعر، والطبخات، والقصص الصغيرة التي صنعت هوية البيت.
حين تفقد ذاكرتها، لا يفقد ابنها أمّه فقط — بل يفقد نفسه أيضًا.
يقول الكاتب:
“كنتُ أرى طفولتي تتسرب من بين أصابعها، كما لو أنّ الماضي ثوب واسع تخلّت عنه فجأة.”
هذه الصورة الأدبية ليست مبالغة.
لأن الأم حين تنسى، تترك أبناءها معلّقين في الماضي، يبحثون فيه عن بقايا ملامحها.
يحاول الكاتب أن يعيد تشكيل الذاكرة من خلال الحكي، كأنه يريد أن يحفظها من الغرق.
يجلس معها، يكرّر القصص، يعيد أسماء الأقارب، يعرض صورًا، يربط الحاضر بالماضي.
لكن المرض أعند من المحاولة.
يقدّم لنا الكاتب لحظات صغيرة، لكنها محمّلة بالوجع، مثل قولها فجأة:
“لا أعرف أين أنا… لماذا أنا هنا؟”
في تلك اللحظة، ينهار الابن في الداخل، لكنه لا يسمح لنفسه أن ينهار أمامها.
فالمريض هنا يحتاج إلى ثبات الآخرين، بينما الآخرين يتلاطمون من الداخل.
الزهايمر في الرواية ليس مرضًا يُقاس بالأعراض… بل تجربة إنسانية تُقاس بالوجع.
وهذا ما يجعل الرواية مختلفة عن الكتب الطبية أو التحليلية.
إنها رواية مكتوبة بدمعٍ خفيف لا يريد أن يسقط، لكنه يسقط رغم مقاومته.
اقرأ أيضا : بينما ينام العالم أبو الهيجاء وفلسطين
الحنان يتعب
من أجمل ما في الرواية أن الأم، رغم انسحابها من الذاكرة، تبقى محافظة على جوهرها — الحنان.
حتى حين تتلعثم الكلمات، يبقى قلبها كما هو.
يصف الكاتب لحظة تقول فيها الأم:
“أشعر بالبرد.”
وهذه الجملة البسيطة تتحول إلى علامة رمزية.
البرد هنا ليس برد الجسد، بل برد الروح التي فقدت حرارة الذكريات.
يمسك يدها، فيشعر أن دفء الأمومة لا يزال حيًا، حتى لو ماتت بقية الأشياء.
يتحوّل الابن إلى الأب، والوالد إلى طفل يحتاج إلى عناية.
وهذه مفارقة قاسية… لكنها حقيقية.
الرواية تُظهر أنّ العناية بالمريض لا تعني فقط أن تمنحه دواءً، بل أن تمنحه ذاكرة بديلة — ذاكرة محمولة على صدر من يحبّه.
الكاتب يفعل ذلك بالكلمات، لكنه يفعله أيضًا بالفعل.
يتابعها، يرافقها، يهدئ خوفها، يبتلع وجعه، ويعيد تعريف العلاقة بينهما.
يقول:
“كنتُ أعلّمها أسماءنا، كأنها تتعلم الحروف لأول مرة.”
وتلك الجملة تلخص مرحلة مؤلمة يعيشها أبناء مرضى الزهايمر:
أن يتحوّلوا إلى معلمين، بعد أن كانوا تلاميذ طوال حياتهم.
لكن وسط الألم، هناك جمال خفي.
جمال العلاقة التي لا تنكسر رغم كل شيء.
جمال الشعور بأن الحب أقوى — ولو بقليل — من المرض.
اقرأ أيضا : رواية “وجه الزمان” – طاهر العدوان
الكتابة كإنقاذ
لا يمكن قراءة هذه الرواية دون أن يشعر القارئ بأن الطاهر بنجلون يكتب كي ينجو.
الكتابة هنا ليست فعلًا جماليًا، بل ضرورة وجودية.
هي محاولة لتجميد اللحظة، للإمساك بالذاكرة وهي تهرب، للحفاظ على صورة الأم قبل أن تأخذها العتمة بالكامل.
يقول:
“أكتب لأحميها من النسيان. أكتب لأنّ المرض أقوى مني، لكن الكتابة أقوى منه بقليل.”
الرواية لا تبحث عن إجابات، لأنها تدرك أنّ لا جواب لهذا النوع من الأسئلة.
لماذا يفقد الإنسان ذاكرته؟
لماذا يأخذ الوقت من البعض أكثر مما يعطيهم؟
لماذا يتحوّل الماضي إلى غرفة مغلقة لا مفتاح لها؟
وإن كانت الرواية مؤلمة، إلا أنها ليست سوداوية.
هناك ضوء صغير في كل صفحة — ضوء الحب.
حب الابن لأمه، وحب الأم رغم النسيان.
حب العائلة، حب الذكريات، حب الإنسان الذي يقاوم بما يستطيع.
وتبقى أهم رسالة في الرواية:
أنّ العجز ليس نهاية الكرامة، وأنّ الحب ليس فعلًا مشروطًا بالذاكرة.
وأنّ الأم — مهما تاهت عن الماضي — تظل أمًا.
اقتباسات
1. “أمي تمشي، لكن الذاكرة لا تمشي معها.”
2. “حين يختفي الماضي، يختفي جزء من وجهي.”
3. “كانت تبحث عن نفسها في وجهي.”
4. “الخوف ليس من الموت… بل من الغياب.”
5. “كنتُ أردد لها أسماءنا، كما لو أنّ الذاكرة درس صعب.”
6. “أمي تنسى، لكن قلبها لا ينسى.”
7. “في صمتها، ثمة وجع أكبر من الكلام.”
8. “المرض يأخذها، لكن يدي ما تزال ممسكة بيدها.”
9. “الحنين أشدّ قسوة حين لا يجد من يتذكره.”
10. “أكتب لأجعل الذاكرة تبقى… ولو قليلاً.”
ليست هذه الرواية كتابًا يُقرأ وينتهي منه، بل كتاب يعود ليفتح جروحًا ويُسكّن أخرى.
إنها مرآة لكل من عرف معنى أن يرى إنسانًا يحبّه ينسحب ببطء من ذاته.
كيف نتعامل مع أمّ تنسى؟
كيف نحتفظ بذاكرة شخص أصبح بلا ذاكرة؟
كيف ننقذ ما يمكن إنقاذه من الماضي؟
لا تقدّم الرواية حلولًا، لكنها تقدّم عزاءً، ودفئًا، وإحساسًا عميقًا بأن التجربة — رغم وجعها — إنسانية بامتياز.
يمشي القارئ مع الكاتب خطوة بخطوة، يرى الأم تترنّح، ويرى الابن يقاوم، ويرى الذاكرة تتوه، ويرى القلب يحاول أن يبقى.
وفي النهاية، يخرج القارئ بدرس لا يُنسى:
أنّ الحب لا يحتاج إلى ذاكرة كي يستمر.
يكفي أن يكون هناك قلب ينبض، ويد تتمسك بالأخرى، ورغبة في ألا نفقد من نحبّ، حتى لو فقدوا هم كل شيء.
التقييم النهائي
- اسم الكتاب: حين تترنح ذاكرة أمي
- اسم الكاتب: الطاهر بنجلون
- عدد الصفحات: 300
- تقييم النجوم: (4/5)
- الفئة المناسبة: كل من مرّ بتجربة المرض أو الشيخوخة أو فقدان الذاكرة، وكل قارئ يحب الأدب الإنساني الواقعي.
- الموضوع: الزهايمر، الأمومة، الذاكرة، الألم الإنساني، الحنين، الرعاية، الشيخوخة.









