بوابة سوريا

البيمارستان النوري في دمشق: عبقرية العمارة الإسلامية وروح الطب العربي في العصور الوسطى

البيمارستان النوري

البيمارستان النوري في دمشق ليس مجرد مبنى تاريخي بل هو رمز حضاري يجمع بين العلم والإنسانية والفن المعماري.

منذ تأسيسه في القرن الثاني عشر على يد نور الدين زنكي امتزج فيه الهدف العلاجي بالتخطيط العمراني الرائع ليصبح مثالًا على كيف يمكن للمعمار أن يخدم الإنسان ويعزز تجربة الشفاء، يعكس المبنى روح العصر الإسلامي من حيث الاهتمام بالطب والتعليم والخدمة الاجتماعية وفي الوقت نفسه يحمل جمالًا هندسيًا يأسرك بتفاصيله الدقيقة، من الساحات والأروقة إلى الأقواس المزخرفة والنقوش الحجرية والخشبية.

يمثل البيمارستان النوري بذلك جسرًا بين الماضي العلاجي العريق والحضارة المعمارية الراقية، شاهدًا على براعة المهندسين والأطباء الذين صمموا مساحة تتناغم فيها الوظيفة مع الجمال والخدمة الإنسانية.

الموقع الجغرافي لـ البيمارستان النوري في دمشق

يقع البيمارستان النوري في قلب دمشق القديمة في حي الحريقة وهو أحد أهم المعالم الطبية والتاريخية التي تعود إلى العهد الأيوبي.

ويتميز موقعه بأهمية استراتيجية داخل النسيج العمراني للمدينة القديمة إذ يتوضع إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي الكبير وإلى الشرق مباشرة من سوق الحميدية الشهير، كما يجاوره من الغرب سوق الخياطين في حي سيدي عامود.

هذا التمركز يجعله جزءًا عضويًا من شبكة الأسواق والمعالم التاريخية التي شكلت مركز الحياة الاقتصادية والاجتماعية في دمشق عبر القرون.

وقد ساهم هذا الموقع المركزي في تعزيز دوره كمؤسسة طبية بارزة في التاريخ الإسلامي قبل أن يُرمم في القرن العشرين ويحوّل إلى متحف للطب والعلوم عند العرب، جامعًا بين القيمة المعمارية والأهمية العلمية والتراثية.

البيمارستان النوري

اقرأ أيضًا: مكتب عنبر… شاهد حي على تحولات جذرية في تاريخ دمشق

تاريخ البيمارستان النوري في دمشق

يعد البيمارستان النوري في دمشق أحد أبرز المعالم الطبية الإسلامية وأكثرها تأثيرًا في تاريخ الطب العربي، إذ تأسس عام 1154م على يد نور الدين زنكي حاكم دمشق الذي سعى إلى إنشاء مؤسسة صحية متقدمة تجمع بين العلاج والبحث العلمي والخدمة الإنسانية.

وقد وقع اختيار نور الدين على موقعه في حي الحريقة لقربه من قلب دمشق وأسواقها ومساجدها، ما يسهل الوصول إليه من مختلف مناطق المدينة.

لم يكن البيمارستان مجرد مستشفى تقليدي بل كان مركزًا متكاملًا للعلاج والتعليم، حيث اشتمل على أقسام للجراحة والرقود اليومي للمرضى وغرف مخصصة للنساء والرجال، بالإضافة إلى صيدلية ومكتبة تحتوي على كتب طبية هامة، كما كان الأطباء فيه يدربون الطلاب على مختلف التخصصات الطبية، بما في ذلك الجراحة والعلاج بالأعشاب والعلاج النفسي.

تميز البيمارستان النوري في دمشق بتنظيمه الإداري والعلمي الدقيق إذ كان لكل طبيب اختصاص محدد، ويُسجل كل علاج وكل حالة مرضية بدقة كما كان يطبق نظام دوام للمرضى مع متابعة الحمية الغذائية والأدوية، ما ساهم في تطوير المعرفة الطبية الإسلامية من خلال دراسة الحالات النادرة والأمراض المزمنة.

إضافة إلى دوره الطبي كان البيمارستان النوري مؤسسة خيرية تقدم العلاج مجانًا للمحتاجين دون تمييز بين طبقات المجتمع، وهو ما يعكس الجمع بين العلم والخدمة الإنسانية الذي جعله نموذجًا متقدمًا للمستشفيات في العصر الوسيط.

واستمر المبنى في أداء وظائفه الطبية خلال العهد العثماني ثم تعرض للإهمال الجزئي حتى القرن العشرين، حين شهد ترميمًا مكثفًا وتحويله إلى متحف للطب والعلوم عند العرب يعرض أدوات طبية قديمة ومخطوطات ونماذج للتقنيات العلاجية والجراحية، ليصبح بذلك شاهدًا على التطور المعماري والتنظيمي للمستشفيات الإسلامية وعلى إرث الحضارة الطبية العربية التي جمعت بين العلم والخدمة المجتمعية.

البيمارستان النوري

اقرأ أيضًا: حي الصالحية: قلب دمشق التاريخي بين الروحانية، التعليم، والحياة الحضرية

الوصف المعماري لـ البيمارستان النوري في دمشق

يمثل البيمارستان النوري نموذجًا بارزًا للهندسة المعمارية الإسلامية في العصور الوسطى، حيث يجمع بين الجمال الوظيفي والروحانية والتخطيط العلمي الدقيق للمؤسسات الطبية.

فتم تصميم المبنى وفق مبادئ العمارة الإسلامية التي تراعي التنظيم الوظيفي التهوية الإضاءة الطبيعية والفصل بين الأقسام المختلفة لضمان راحة المرضى والكادر الطبي على حد سواء.

ويتألف البيمارستان النوري من ساحة مركزية مفتوحة تحيط بها أروقة وأجنحة مختلفة، وهو أسلوب شائع في العمارة الإسلامية لضمان التهوية والإضاءة الجيدة.

الساحة عادة ما تحتوي على نافورة أو حوض مياه يساهم في تلطيف الجو وتوفير بيئة هادئة للمرضى تحيط بالساحة غرف المرضى وغرف التشخيص والمستودعات الطبية، كما يتم فصل غرف الرجال عن غرف النساء وفقًا للعادات الاجتماعية السائدة مع مراعاة خصوصية كل قسم.

الأروقة المزخرفة بالقوالب الحجرية والنقوش الهندسية والخطوط العربية تعكس الذوق المعماري الأيوبي وتبرز اهتمام المصممين بالتفاصيل الجمالية التي تضفي على المكان جوًا من الروحانية والهدوء، ما يعزز التعافي النفسي للمرضى.

كما أن البيمارستان يحتوي على بوابات وأقواس مقوسة تسمح بتدفق الهواء وتوفير الإضاءة الطبيعية إلى الداخل، إضافة إلى مصاطب حجرية وممرات منظمة تتيح حركة سلسة للمرضى والطاقم الطبي.

كما أن المبنى أيضًا يضم صيدلية ومكتبة حيث صُممت هذه الأقسام بأسلوب يتيح سهولة الوصول إليها من مختلف أجنحة المستشفى.

وقد ركز المعماريون على استخدام الحجر والآجر والخشب في البناء مع نقوش وزخارف هندسية دقيقة تزين الجدران والأبواب والنوافذ ما يجمع بين المتانة والجمال.

البيمارستان النوري

اقرأ أيضًا: سوق الحميدية.. قلب دمشق النابض

متحف البيمارستان النوري في دمشق

تم تحويل البيمارستان إلى متحف في السبعينيات من القرن العشرين بعد ترميمه ليصبح مركزًا ثقافيًا وتعليميًا يعرض التجربة الطبية الإسلامية ويجمع بين التاريخ والعلوم والفن المعماري.

ويضم المتحف عدة أقسام رئيسية منها قسم أدوات الجراحة والعلاج، الذي يحتوي على نماذج من المشارط والملاقط والمقصات وأدوات القسطرة

وقسم الصيدلة والأدوية الذي يعرض أوعية لتخزين الأعشاب والعقاقير الطبية إلى جانب وصفات مكتوبة على المخطوطات.

بالإضافة إلى قسم المكتبة والمخطوطات الذي يحوي نسخًا من كتب طبية عربية قديمة تشمل مؤلفات شهيرة لأطباء مثل ابن سينا والرازي.

إضافة إلى قسم التاريخ والعمارة الذي يوضح مراحل تأسيس البيمارستان وتصميمه المعماري المبتكر، ومعارض تعليمية تفاعلية توضح أساليب ممارسة الطب في العصور الوسطى.

وتشمل مقتنيات المتحف أدوات جراحية ومستلزمات العلاج النفسي والجسدي وحاويات للصيدلة ومستحضرات الأعشاب الطبية، إلى جانب المخطوطات والكتب الطبية والنماذج المعمارية والرسوم التوضيحية التي توثق ممارسات الطب والتعليم في البيمارستان.

وقد تخرج من هذا المركز التعليمي العديد من الأطباء البارزين الذين ساهموا في تطور الطب الإسلامي ومن بينهم أطباء متخصصون في العلاج بالأعشاب والجراحة وطب العيون والذين نقلوا معارفهم إلى مستشفيات أخرى في المدن الإسلامية.

ومن أبرز خريجي البيمارستان النوري الطبيب والفيلسوف ابن النفيس الذي درس على يد المهذب الدخوار وخدم في البيمارستان النوري، وابن أبي أصيبعة الذي درس في البيمارستان ويعتبر من أئمة الطبقات في عصره، بالإضافة إلى بدر الدين المظفر بن قاضي بعلبك وعز الدين السويدي الدمشقي. 

بهذا الشكل يشكل متحف البيمارستان النوري جسرًا بين الماضي والحاضر حيث يتيح للزوار الاطلاع على إنجازات الطب العربي الإسلامي وفهم كيفية تنظيم التعليم والممارسة الطبية بشكل متكامل ضمن بيئة معمارية متقنة وخدمة إنسانية راقية.

البيمارستان النوري

ختامًا يظل البيمارستان النوري في دمشق شاهدًا حيًا على عبقرية العمارة الإسلامية وروعة الطب العربي في العصور الوسطى.

إذ لم يكن مجرد مكان للعلاج، بل مركزًا متكاملًا للعلم والخدمة الإنسانية، يجمع بين التنظيم الوظيفي والجمال الفني.

كما إن تحويله اليوم إلى متحف للطب يعكس اهتمام المجتمع بالحفاظ على التراث وتقدير الإنجازات العلمية والتاريخية السابقة، مما يجعله مصدر إلهام للأجيال المعاصرة لفهم كيف يمكن للعلم والفن والخدمة الإنسانية أن تتكامل في فضاء واحد، ليبقى إرثه خالدًا يروي قصة حضارة زاخرة بالمعرفة والرعاية الإنسانية.

السابق
حي الصالحية: قلب دمشق التاريخي بين الروحانية، التعليم، والحياة الحضرية
التالي
ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق: رمز البطولة والقيادة العربية الإسلامية