يُعد مكتب عنبر واحدًا من أبرز المعالم التاريخية والتعليمية في مدينة دمشق، فهو شاهد حي على التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية التي شهدتها سوريا منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
جمع مكتب عنبر بين الطراز المعماري الدمشقي الأصيل وبعض المؤثرات الأوروبية ليعكس بذلك صورة عن التفاعل الحضاري في تلك الحقبة، فلم يكن مجرد مبنى معماري فريد بل كان مؤسسة تعليمية رائدة أسهمت في إعداد نخبة من المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين كان لهم دور بارز في صياغة الحياة الفكرية والوطنية في سوريا، الأمر الذي يجعل دراسته مدخلًا لفهم العلاقة بين العمارة والتعليم والهوية الوطنية….
تعرف معنا على مكتب عنبر.
Contents
الموقع الجغرافي
يقع مكتب عنبر في دمشق في أحد منعطفات شارع سوق مدحت باشا أحد الشوارع الرئيسية التي تمتد بشكل مستقيم في المدينة القديمة وتتفرع عنه حواري متعددة من الجانبين، وهي جزء من شبكة الأحياء التقليدية التي تشكل النسيج العمراني التاريخي للعاصمة، ويمثل المبنى نفسه مثالًا على العمارة الرسمية القديمة ويعكس بشكل واضح الطابع الإداري للمؤسسات في الفترة العثمانية والانتداب الفرنسي.
كما ويمكن الوصول إلى المكتب من الشارع نفسه حيث تربطه الحارات القديمة بشماله نحو الحديقة العامة وسوق الحميدية، وبجنوبه نحو شارع البدوي وسوق السويقة، ما يوضح الدور الحيوي للموقع ضمن شبكة المواصلات والتجارة في المدينة
يمثل المكتب اليوم نموذجًا للمباني الحكومية التي تم الحفاظ عليها في دمشق القديمة ويعكس التغيرات التاريخية التي مرت بها المدينة من حيث الوظائف الإدارية والثقافية، كما يظهر العلاقة بين التخطيط العمراني التقليدي وأماكن النشاط الاجتماعي والثقافي.

اقرأ أيضًا: قلعة دمشق الأثرية: حكاية ألفي عام من الحصون والتحصينات
الجانب المعماري لمكتب عنبر
يُعد مكتب عنبر في دمشق نموذجًا فريدًا للعمارة الدمشقية التقليدية ويجمع بين الطراز المحلي الأصيل وبعض اللمسات الفنية المستمدة من الفن الأوروبي، لا سيما فن الباروك الذي ظهر في أجزاء من المبنى والتي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر.
البوابة الرئيسية للمكتب مصنوعة من صفائح الحديد ومزودة بقضبان أمان وعلى جانبيها نافذتان صغيرتان، بينما تحتوي اللوحة الرخامية العليا على اسم مكتب إعدادية ملكية، وهو الاسم التاريخي للمؤسسة قبل تحويلها لاحقًا إلى عنبر قصر الثقافة الشعبية الذي أصبح مركزًا ثقافيًا يهدف إلى جمع وتوثيق التراث الشعبي السوري ونقله للأجيال الجديدة.
يشغل المبنى مساحة تقارب 5000 متر مربع ويتميز بتصميم مستطيل مقسم إلى أربعة أقسام رئيسية لكل قسم باحة داخلية خاصة (ديار)، وتحيط بها الغرف ليشكل بذلك شبكة من المساحات المفتوحة التي تعكس المبدأ المعماري الدمشقي القائم على الانفتاح على الداخل والانغلاق على الخارج.
ويضم مكتب عنبر حوالي 40 غرفة موزعة على طابقين مع مراعاة التوازن بين الوظائف المختلفة، إذ احتوت بعض الغرف على صفوف دراسية واسعة كانت تستوعب أكثر من مئة طالب في وقت واحد.
وتتجلى الأهمية المعمارية للمبنى في التفاصيل الزخرفية الدقيقة، حيث تم تزيين الجدران الداخلية والخارجية بالرخام والأحجار الملونة المرتبة في أشكال هندسية متقنة، ما يعكس الذوق الرفيع والفن الدمشقي التقليدي، كما تحتوي الأرضيات على الرخام المفصص الذي يضيف بعدًا جماليًا إضافيًا للمساحات الداخلية.
أما الباحات الداخلية فتضفي عليها الأشجار المزهرة وأشجار الحمضيات وشجيرات الزينة أجواءً طبيعية متكاملة، في حين تتوسط الباحة الرئيسية بحرة رخامية محاطة بعريشة تتشابك أغصانها فوقها لتشكل قبة صغيرة.
وتكتمل روعة المبنى بوجود إيوان رحب يرتكز على أعمدة رخامية ويعلوه سقف واسع، بالإضافة إلى البوابات الضخمة والأبواب الخشبية المنحوتة.
ويضم مكتب عنبر حمامًا تقليديًا ذا ردهة مقببة محلاة بزجاج القبيقبات وأجران رخامية كبيرة، ما يظهر الحرص على الجمع بين الوظائف العملية والجمالية في الوقت نفسه.
يشكل مكتب عنبر بهذا الشكل مثالًا حيًا على التوازن بين التصميم المعماري التقليدي والزخرفة الفنية، ويبرز كواحد من أهم المعالم المعمارية التي حافظت على التراث العمراني الدمشقي في المدينة القديمة.

اقرأ أيضًا: المكتبة الظاهرية بدمشق: معلم تراثي ومركز للمعرفة عبر العصور
تاريخ مكتب عنبر
شُيّد مكتب عنبر في الأصل كمنزل فخم على الطراز الدمشقي عام 1872م على يد يوسف أفندي عنبر أحد أثرياء يهود دمشق، فيما تذهب بعض المصادر إلى أن تاريخ البناء يعود إلى عام 1867م.
بلغت تكلفة إنشائه حينها ما يقارب 43 ألف ليرة عثمانية وهو مبلغ ضخم بمقاييس تلك المرحلة، إلا أن ارتفاع التكاليف حال دون إتمام المشروع ما اضطر صاحبه إلى التخلي عنه عام 1887م، فصادرته الدولة العثمانية لقاء ديون مترتبة عليه وأكملت بناءه مضيفة جناحين جديدين ليصبح بعد ذلك مدرسة حكومية عُرفت باسم “مكتب إعدادية ملكية”.
كان هذا المكتب بمثابة المدرسة المدنية الأولى في دمشق، حيث اقتصرت الدراسة فيه على الصف التاسع وكان أغلب طلابه من أبناء العائلات الدمشقية.
ومع صعود جمعية الاتحاد والترقي في اسطنبول وتبني سياسة التتريك تحولت المدرسة إلى “سلطان مكتبي” وتم استبدال كادرها الإداري والتعليمي بأعضاء أتراك، وأصبحت اللغة التركية لغة التدريس الرسمية، حيث توسعت صفوفها حتى الحادي عشر وأصبحت المؤسسة التعليمية الإعدادية الوحيدة في دمشق مستقطبة ما بين 500 و600 طالب.
كما كان التعليم مجانيًا بينما تُفرض رسوم على الإقامة والطعام، وتنوّعت مناهجها بين العلوم الدينية واللغوية (العربية، التركية، الفارسية) والعلوم الحديثة مثل الكيمياء والفيزياء والميكانيكا والجيولوجيا والجغرافيا والفلك.
بعد انتهاء الحكم العثماني وقيام المملكة السورية بقيادة الملك فيصل الأول عام 1919م استعادت العربية مكانتها كلغة رسمية وحُوّل المكتب إلى “مدرسة التجهيز ودار المعلمين”، وأسند التدريس فيه إلى نخبة من المثقفين العرب الذين لعبوا دورًا محوريًا في إحياء اللغة والتراث العربي.
وفي فترة الانتداب الفرنسي ظل المبنى مركزًا تعليميًا مهمًا وبرز كمنبر وطني أسهم في تشكيل الوعي السياسي والقومي، وكان له دور في التحضير للثورة السورية الكبرى عام 1925م.
وفي عام 1935م أُنشئ فيه صف “التعليم العالي” لإعداد المعلمين الاختصاصيين قبل أن ينتقل طلابه عام 1936 إلى مبنى “ثانوية جودت الهاشمي”.
أما في مرحلة الاستقلال فقد استُخدم المبنى فترة كمعهد للفنون النسوية، ثم تعرض للإهمال حتى كاد ينهار قبل أن تتدخل وزارة الثقافة عام 1976 لترميمه وتحويله إلى “قصر الثقافة العربية” ليصبح مقرًا للندوات والمعارض الفنية.
ومنذ عام 1988م اتخذ المبنى دورًا إداريًا جديدًا بصفته مقرًا لمديرية دمشق القديمة، كما شهد لاحقًا أعمال ترميم إضافية لإعادة إحياء زخارفه الأصلية وليُعاد توظيفه بما يتلاءم مع متطلبات العصر من خلال مكتبة عامة ومتحف وقاعات للعرض الثقافي وورش للحرف التقليدية، فضلًا عن افتتاح مركز لخدمة المواطن فيه عام 2012.
وهكذا يمثل مكتب عنبر نموذجًا دالًا على كيفية تحول البنية العمرانية الدمشقية من وظيفة سكنية خاصة إلى مؤسسة تعليمية ثم إلى فضاء ثقافي وإداري يحافظ على هوية المدينة التراثية.

اقرأ أيضًا: مصيف بلودان… الوجهة المثالية لعشاق الطبيعة والتاريخ
أهمية خريجي مكتب عنبر ودورهم في الحياة الفكرية والسياسية
لم يكن مكتب عنبر مجرد مؤسسة تعليمية تقليدية بل شكّل نواة حقيقية لإعداد النخب الفكرية والسياسية في سوريا خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد تخرج فيه عدد كبير من المربين والمثقفين الذين اضطلعوا بأدوار محورية في النهضة العربية الحديثة، ومن أبرز هؤلاء جودت الهاشمي عالم الرياضيات الذي ارتبط اسمه بالصرح التعليمي الأهم في دمشق “ثانوية جودت الهاشمي”، وجميل صليبا المفكر والفيلسوف الذي أسهم في إثراء الفكر العربي بترجماته ومؤلفاته الفلسفية.
كما برز بين خريجيه نخبة من الأساتذة والعلماء أمثال محمد علي الجزائري، كامل نصري، عبد الرحمن سلام، محمد الداودي، سليم الجندي، رشيد بقدونس، شكري الشربجي، مسلم عناية، جودت الكيال، يحيى الشماع وعاصم البخاري، الذين كان لهم إسهام مباشر في تطوير التعليم ونشر الثقافة العربية.
وقد لعب خريجو المكتب دورًا بارزًا في بث الروح الوطنية خاصة خلال فترة الانتداب الفرنسي، إذ أسهموا في توعية الأجيال الشابة بمفاهيم الحرية والقومية العربية.
وكان بعضهم في طليعة الشخصيات التي دعمت الحركات الوطنية والثورة السورية الكبرى عام 1925م، ومن ثمّ فإن القيمة التاريخية لمكتب عنبر لا تقتصر على بنيانه المعماري أو موقعه في قلب دمشق القديمة بل تمتد إلى تأثيره الفكري والوطني من خلال خريجيه الذين شكّلوا جسرًا حقيقيًا بين التعليم النظامي الحديث والنهوض السياسي والثقافي في سوريا.

ختامًا إن تتبع تاريخ مكتب عنبر يكشف بوضوح عن دوره المزدوج بوصفه تحفة معمارية دمشقية من جهة ومؤسسة تعليمية وثقافية لعبت دورًا محوريًا في النهضة الفكرية والوطنية من جهة أخرى.
فقد مر المبنى بتحولات متعاقبة من منزل خاص إلى مدرسة عثمانية ثم مؤسسة عربية في العهد الفيصلي فمركز وطني في فترة الانتداب الفرنسي وصولًا إلى تحوله في العصر الحديث إلى فضاء ثقافي وإداري يحافظ على هوية المدينة القديمة.
وبذلك فإن مكتب عنبر لا يمثل مجرد أثر تاريخي بل رمزًا للتفاعل بين المكان والزمان والإنسان وعنوانًا لاستمرارية الذاكرة الوطنية في قلب دمشق.