يعتبر الأغباني الدمشقي أكثر من مجرد نسيج مطرز، بل هو قصة تاريخ وحضارة تُروى بخيوط من الحرير والقطن وزخارف تحكي عن جمال الطبيعة والتراث العربي الغني.
لطالما كان قماش الأغباني رمزًا للفخامة والرقي، يزين البيوت والأجساد ويحمل في طياته عبق الماضي وروح الأصالة التي تتوارثها الأجيال.
في هذا المقال، سنتعمق في رحلة الأغباني الدمشقي من نشأته وتطوره التاريخي مرورًا بالمواد المستخدمة وتقنيات التصنيع الدقيقة، وصولًا إلى استخداماته المتنوعة وأهميته الثقافية التي جعلت منه أيقونة للفن التراثي السوري.
Contents
تاريخ الأغباني وتطوره
يُعد تاريخ صناعة الأغباني الدمشقي في سوريا من أقدم الحرف وأعرقها في المنطقة، حيث بدأت صناعة الأغباني في دمشق قبل أكثر من 150 عامًا وعندها كان الحرفيون يستخدمون الحرير الطبيعي في الأساس.
ومع مرور الوقت، تطورت الحرفة حيث أصبح الحرفيون يستخدمون القطن السوري عالي الجودة أيضًا.
وقد أرست الحضارات القديمة التي قامت على الأراضي السورية أسس هذه الصناعة لا سيما خلال العصر الفينيقي، حيث اشتهر الفينيقيون ببراعتهم في استخلاص الأصباغ الطبيعية وأبرزها صباغ الأرجوان الصوري (Tyrian purple) المستخرج من أصداف الموريكس، والذي كان يُعد من أثمن المواد في العالم القديم، ويُخصص للملابس الملكية والكهنوتية نظرًا لتكلفته العالية ولونه الفريد.
خلال العهدين اليوناني والروماني، شهدت صناعة النسيج والمطرزات السورية تطورًا ملحوظًا حيث اكتسبت شهرة واسعة بفضل جودة منتجاتها ودقة صناعتها، فتميزت المنسوجات في تلك الفترة بزخارفها المتقنة وتصميماتها التي تعكس التأثيرات الثقافية والفنية لتلك الحقبة.
ومع بداية الحملات الصليبية، انتقلت هذه الحرفة الرفيعة إلى أوروبا فعمل الصليبيون على نقل الأقمشة والمطرزات السورية الفاخرة إلى بلادهم، حيث لاقت إقبالاً كبيرًا في الأوساط الأرستقراطية، وقد ساهم هذا الانتقال في التأثير على تطور صناعة النسيج والأزياء في أوروبا.
حيث أُدخلت تقنيات وزخارف جديدة مستوحاة من الفن السوري، مما يبرز الدور الحضاري الذي لعبته سوريا كمركز لإنتاج وتصدير المنسوجات الفاخرة عبر العصور.

اقرأ أيضًا: حلاوة الجبن: سُكر الشام وعبق الذاكرة
أصل تسمية الأغباني الدمشقي
تكتنف تسمية “الأغباني الدمشقي” قصصًا متوارثة تعكس تاريخ هذه الحرفة العريقة وتُطرح في هذا السياق روايتان رئيسيتان.
تشير الرواية الأكثر شيوعًا وتجذرًا في الذاكرة الدمشقية إلى أن الاسم هو في الأصل دمج لاسم عائلتين من العائلات التي ابتكرت هذا الفن وأتقنته وهما عائلتا “آغا” و”باني”، ومع مرور الزمن التصق اسماهما بالمنتج ليصبح “آغباني”.
ومن ناحية أخرى، يقدم تفسير بديل أصولًا لغوية مختلفة حيث يرى البعض أن الكلمة قد تكون مشتقة من اللغة التركية، وتعني “الزخرفة على القماش” أو “التطريز”، وهو أمر منطقي بالنظر إلى التأثيرات الثقافية العثمانية الطويلة في المنطقة.
أما إضافة صفة “الدمشقي”، فهي تأكيد صريح على هوية هذه الحرفة ومركزها الجغرافي حيث أن مدينة دمشق كانت ولا تزال الموطن الأصلي الذي نشأ وتطور فيه هذا الفن، مما يجعل الاسم كاملًا دلالة على منتج حرفي فريد مرتبط بتاريخ وهوية هذه المدينة العريقة.

اقرأ أيضًا: البروكار الدمشقي: نسيج من الذهب والتاريخ
المواد المستخدمة وتقنيات التصنيع
تبدأ عملية إنتاج الأغباني الدمشقي باختيار القماش الأساسي وغالبًا ما يكون من الكتان عالي الجودة، وهو الخيار التقليدي الأكثر فخامة أو من القطن الذي يتميز بمرونته وسهولة التطريز عليه، وأحيانًا يُستخدم الحرير الطبيعي في القطع الفاخرة والنادرة.
وبعد تجهيز القماش وقصّه حسب المقاس المطلوب تُحاك الأقمشة على أنوال يدوية، وهي عملية تتطلب مهارة ودقة فائقة لضمان جودة النسيج، ثم تبدأ مرحلة الرسم والطباعة والتي كانت تتم يدويًا في الماضي باستخدام قوالب من الحجر والرمل ثم النحاس وأخيرًا الخشب.
حاليًا، يتم استخدام الحاسوب لتصميم هذه الزخارف بدقة متناهية ثم تُنفذ باستخدام آلات الطباعة والتطريز الحديثة، ورغم التطور التكنولوجي تظل اللمسة اليدوية للحرفيين ضرورية لإضافة التفاصيل الدقيقة والإتقان
كما تتنوّع النقوش بين الأشكال النباتية والهندسية والنقوش المستوحاة من العمارة العربية الإسلامية ومن الطبيعة والتراث السوري، ومن أشهر أسماء هذه الأشكال “سقف القاعة” “الحجب” “الضامة” و”السلطعان”
ثم تبدأ مرحلة التطريز وهي الأكثر حساسية في هذه الحرفة، حيث تُستخدم خيوط معدنية لامعة إما ذهبية أو فضية اللون تُصنع عادةً من خيوط بوليستر مغلّفة بمعدن يعكس الضوء.
وتتعدد اشكال التطريز حيث تشمل “التطريز الطلس” (تطريز كامل) و”التطريز الرش” (تطريز جزء من القماش) و”التطريز النافر” (تطريز خفيف ومتموج).
وفي القطع التراثية القديمة كانت تُستخدم خيوط ذهب وفضة حقيقية يُنفذ التطريز يدويًا بغرز خاصة من أبرزها غرزة “السنكابور” التي تعطي ملمسًا مسطحًا ولامعًا للنقش مما يضفي على القماش بريقًا متغيرًا حسب زاوية الضوء.
تستغرق كل قطعة من الأغباني الدمشقي أيامًا أو حتى أسابيع من العمل اليدوي المتقن، حيث يتم الاعتناء بكل تفصيلة من بداية التطريز حتى إنهاء الحواف بإضافة الشراريب أو الزينة المطرزة يدويًا، وبعد الانتهاء يُغسل القماش بلطف ويُكوى بعناية ليُبرز تفاصيل الزخرفة.
ورغم وجود نسخ حديثة تُنتَج آليًا لتلبية الطلب التجاري إلا أن الأغباني الدمشقي اليدوي لا يزال يحتفظ بمكانته كرمز للفن الدمشقي الأصيل والحرفة المتوارثة التي تعبّر عن هوية ثقافية عريقة لا تزول.

اقرأ أيضًا: الصابون الحلبي: ذهب حلب الأخضر وتراث من الأصالة
استخدامات الأغباني وأهميته الثقافية
على مرّ العصور تنوّعت استخدامات الأغباني الدمشقي في البيوت الشامية، حيث كان الأغباني يستخدم في صناعة القنابيز والعمائم والشراشف الفاخرة ومفارش للطاولات وصواني الضيافة، بالإضافة إلى أنه زيّن الستائر وأغطية الأرائك والوسائد المطرزة في المجالس مضيفًا لمسة من الفخامة والأصالة على الديكور الداخلي.
كما دخل في صناعة العباءات والملابس التقليدية لا سيما تلك المخصصة للمناسبات والأعراس لما يحمله من طابع شرقي راقٍ، وقد أصبح مرغوبًا جدًا لدى السياح الذين يبحثون عن قطع فنية تعكس التراث السوري الأصيل.
ومع تطور الزمن تحوّل الأغباني أيضًا إلى مادة أساسية في الصناعات التذكارية والسياحية، فبات يُستخدم في تصميم الحقائب والإكسسوارات وأغلفة الدفاتر وحتى العلب الفاخرة ليحمل روح دمشق إلى العالم.
وتكمن الأهمية الثقافية للأغباني الدمشقي في كونه حرفة يدوية متوارثة تعبّر عن الإبداع السوري الأصيل وتعكس تفرّد الذوق الدمشقي في تحويل القماش إلى تحفة فنية.
كما يُعدّ الأغباني الدمشقي اليوم أحد سفراء التراث السوري في المحافل الدولية، يعرّف بالهوية الثقافية الغنية للبلاد ويُبرز مكانة دمشق كحاضنة للفنون والحرف.
ومن هنا تأتي الحاجة للحفاظ على هذه الحرفة ليس فقط من منظور اقتصادي، بل كمسؤولية ثقافية للحفاظ على الذاكرة الجمعية لمدينة عريقة تُروى حكاياتها في خيوط الأغباني المطرزة يدويًا بحبّ وإتقان.

في الختام، يظل الأغباني الدمشقي أكثر من مجرد قطعة فنية تزين المنازل والأجساد متخطيًا ذلك ليكون جزء حي من الهوية الثقافية السورية، وشاهد على تاريخ غني من الفن والمهارة التي تستمر في إلهام الأجيال القادمة الحفاظ على هذه الحرفة ودعمها يعني الحفاظ على جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني الغني.