تأخذنا رواية “ورد” للكاتبة السعودية جوهرة الرمال في رحلة سردية نفسية وروحية معمقة، تسبر أغوار الذات الإنسانية من خلال شخصية “ورد”، الفتاة التي ابتُليت بفقدان البصر في طفولتها، وواجهت بعدها صراعات مريرة في استعادة بصرها وذاكرتها وسط مجتمع تقليدي يضيق على أنوثتها وحريتها.
هذه الرواية ليست مجرد حكاية عن العمى، بل استكشافٌ دقيقٌ لمفارقة الوجود الإنساني، حيث تصارع الذات كي تستعيد هويتها، وتنتصر على قسوة الواقع وقيوده.
Contents
فقدان النور وبداية الانطفاء
تبدأ الرواية بفقدان “ورد” للنور في عينيها، تلك الطفولة التي غابت فيها الأبصار، لكنها لم تغب فيها الرؤى. حين تشرق على قارئها أحداث دخولها المصحة النفسية، واستعادتها تدريجياً جزءاً من بصرها.
تتوالى حلقات الصراع الداخلي بين ما هو مفقود وما هو مكتسب، فتُساق القارئ إلى عالم من الارتباك والتمزق النفسي.
أبلغ محطات الرواية تأتي بعد مغادرتها بيت أهلها، حيث تتهاوى تحت وطأة الضغوط النفسية المتراكمة، فتفقد ذاكرتها في حادثة نفسية مؤلمة.
تستيقظ لتجد نفسها في حياة لم تختَرها: زوجة لرجل مصاب بالتوحد وأم لابنة لم تعرف كيف أنجبتها، مجبرة على التكيف مع واقع غريب يعج بالأسئلة والدهشة.
اقرأ أيضا :أنا قبل كل شيء رواية الصدق والصمت والتحول
الذاكرة كقناع نفسي
ليس فقدان الذاكرة عند ورد مجرد نسيان، بل هو رد فعل نفسي دفاعي نتيجة تراكم الضغوط والأحزان، محاولة من عقلها الواعي واللاواعي للحماية من الألم والمعاناة.
حين تستفيق ورد في تلك الحالة الجديدة، تواجه ازدواجية في الوعي، بين ذاكرة ضائعة وحياة قائمة، تتطلب منها التكيّف مع زوج غير قادر على التواصل، وطفلة لا تملك عنها جذورًا عاطفية، ليبدأ معها صراع الوجود من جديد.
يرسم الزوج صورة رجل منغلق، مبتور التواصل الاجتماعي، ينتمي لعالم لا تعرف فيه المشاعر طريقها التقليدي إلى القلوب .
تلتقي “ورد” معه في وحدة صامتة، لا يربط بينهما سوى وجود جسدي لا يلبّي شغف النفس ولا يُشبع الحاجة إلى الحميمية.
هكذا، يصير الزوج رمزاً للغربة في القرب، للجمود العاطفي الذي يعانده الحراك النفسي المتلاطم لورد.

بين الغواية والوعي الأخلاقي
على النقيض، يُجسّد أخ الزوج الحياة بذاتها؛ شخصية منفتحة، نابضة بالحيوية، تنبض دفئاً ونبضاً يُشعر ورد بأنها على قيد الوجود.
يثير هذا الرجل في داخلها رغبات مكبوتة، ومشاعر جديدة تختزل حياة كانت تفتقدها ،لكن هذا الشعور، وإن وُلد بصمت، يرافقه صراع أخلاقي ونفسي عميق، إذ ترفض ورد الوقوع في ضعف أو خيانة الذات.
تتبلور في ذهن ورد إرادة الانعتاق من قيود زوجية ونفسية خانقة، فتتخذ قرار الخروج مع ابنتها، إعلاناً صارخاً لحريتها، ورغبة في استعادة ذاتها.
الخروج من البيت لا يعني فقط الهروب من مكان، بل هو خروج من دائرة الألم، انطلاق نحو الحياة الحقيقية حيث تستعيد صوتها وهويتها.
اقرأ أيضا :ورد… لي أنا أولا !
موت بلا وداع
تأتي وفاة الزوج فجأة، معلنة نهاية فصل من رحلة ورد التي لم تكن يوماً رحلة حب، بل رحلة تعلم وصراع. ومع ذلك، يعمق موت الزوج من جراح ورد، إذ فقدت بذلك جسراً عبرت عليه، جزءاً من ماضيها المضطرب، ووجودها الذي لم تكتمل فصوله.
تختتم الرواية بنبرة تأملية مفتوحة، تنضح بالأمل والتمرد في آنٍ واحد، إذ تنطلق ورد في سرد تجربتها عبر بودكاستات، محولة الألم إلى رسالة صوتية تُسمع وتُلهم.
هذا التحول يعكس نضجها، وتحول الألم إلى قوة، والذات الممزقة إلى كيان متماسك يتحدى القيود.
اقرأ أيضا :أول مرة أصلي وكان للصلاة طعم آخر
التحليل النقدي
البنية السردية: تتقن الكاتبة نسج سرد متعدد الأبعاد، يمزج بين الزمن الداخلي والخارجي، الواقع والذاكرة، ليجسد حالة التمزق والبحث عن الكمال.
الصراع النفسي والاجتماعي: تجسد الرواية صراع المرأة بين الواجب الاجتماعي والبحث عن ذاتها، في مجتمع يفرض قيودًا صارمة على حريتها.
الرمزية: فقدان البصر والذاكرة رموز لفقدان الهوية، الزوج التوحدي رمز للعزلة، وأخ الزوج رمز للانعتاق والنبض بالحياة.
اللغة والأسلوب: لغة شاعرية، عميقة، مفعمة بتأملات فلسفية، تجعل القارئ يعايش معاناة ورد ويشعر بعمق تجربتها.
الموضع النسوي: الرواية نقد اجتماعي جريء يُعيد تعريف دور المرأة في الخليج، مؤكدًا حقها في الاستقلال والاختيار.

اقتباسات
١.”الحياة ليست قصة نرويها ونختار أبطالها، بل لوحة مرسومة بألوان الألم والفرح لا تختارها.”
٢. “خرجتُ دون أن أغلق الباب، كأنّي أترك له فرصة أخيرة ليقول شيئًا… لكنه لم يقل.”
٣.”كنت أعتقد أن النوافذ هي كل ما أحتاجه، حتى اكتشفت أن السماء لا تُرى من خلف الزجاج الخائف.”
ورد كصوت نسوي ناضج
تنجح “ثلاثية ورد” في تقديم تجربة إنسانية عميقة، عبر سرد متين وشخصيات نابضة بالحياة، تستكشف أعماق النفس البشرية وصراعها مع الذات والآخر.
لقد استطاعت جوهرة الرمال أن تخلق صوتًا نسائيًا أصيلاً في الأدب الخليجي، يحمل رسالة حرية واستقلال، ويدعو إلى فهم أعمق للذات واحتياجاتها، وسط مجتمع متغير.
إنها رواية لا تُنسى، تدفع القارئ إلى التأمل في معاني الهوية، الحرية، والحب، وتذكرنا دومًا بأننا قبل كل شيء، بشر نبحث عن ذاتنا الحقيقية في عالم معقد.

أن ما يُميز “ورد” ليس فقط في تسلسل الأحداث، بل في ما يتخلل تلك الأحداث من شجن وجودي وتيه روحي.
الرواية تُعيد مساءلة مفاهيم الذات، ليس بوصفها كينونة ثابتة، بل كحالة متغيرة تنحتها التجارب وتعيد تشكيلها الخسارات.
“ورد” لم تكن يومًا مجرد شخصية أدبية، بل تحوّلت في وعي القارئ إلى مرآة تعكس هشاشة الإنسان حين يُدفع إلى أقصى حدود الاحتمال.
الذاكرة
تلعب الذاكرة دورًا مركزيًا لا كأداة لتذكر الماضي فحسب، بل كجزء من الهوية ،حين تفقد “ورد” ذاكرتها، يتبقى منها فقط الجسد، بينما تتوارى النفس خلف حجب كثيفة من النسيان.
وهذا يطرح تساؤلاً فلسفيًا عميقًا: من نكون حين لا نعرف من كنا؟ وهل يكفي الحاضر لصناعة معنى، أم أن الذاكرة شرط أساسي للوعي بالذات؟
يبدو أن الكاتبة أرادت عبر هذه الثيمة أن تكشف هشاشة التصورات التقليدية للهوية، مؤكدة أن الإنسان في جوهره مشروع مستمر من التكوين وإعادة التكوين.
أما البنية النفسية للرواية، فتستحق تأملاً خاصًا، إذ تغوص الكاتبة عميقًا في اللاوعي الأنثوي المثقل بالحرمان.
المصحة ليست فقط مكان علاج، بل رمزية للتوقف، للمواجهة، وربما لإعادة الولادة من جديد، كما أن البيت الزوجي الذي عاشت فيه ورد لاحقًا، ليس بيتًا بالمعنى التقليدي، بل سجنًا هادئًا، يُقابل فيه القارئ المفارقة بين الأمان الظاهري والانهيار الداخلي.
الطفلة
الجذر المقطوع والرابط المستعاد من جانب آخر، فإن حضور شخصية الطفلة – ابنة ورد – يفتح بابًا تأويليًا مهمًا ، الطفلة، التي لم تشعر ورد بصلتها بها، تمثل جانبًا مقطوع الجذور من “الذات الأمومية”، وهي ليست مجرد شخصية، بل رمز لامتداد حياة لم تخترها ورد بإرادتها، بل فُرضت عليها ضمن سياق الغياب.
وعلى الرغم من الانفصال العاطفي الأولي، فإن قرار ورد بأخذ ابنتها والخروج من ذلك البيت يمثل ولادة جديدة للعلاقة، وإعلانًا عن استعادة الرابط بين الجسد والروح، بين المرأة والأم.
الرسائل النسوية في الرواية تُصاغ بلغة غير شعاراتية، بل عبر التجربة الحيّة والواقعية، فورد لا تهتف بالحرية، بل تعيشها.
تمرّ بتحولات مؤلمة، لكنها في النهاية تقرر، تختار، وتنهض. هذه القوة الداخلية هي جوهر الخطاب النسوي في الرواية، الذي لا يسعى لخلق نماذج بطولية، بل لكشف إمكانية النهوض حتى من داخل الركام.
أكثر ما يلفت النظر أيضًا هو أن الكاتبة تتجنب الوقوع في فخ التبسيط العاطفي ، فالعلاقة المعقدة بين ورد وأخ الزوج لا تُقدَّم كحب تقليدي، بل كرغبة إنسانية في الاحتواء، وكمنفذ نور يتسلل إلى عتمة حياتها.
لكنها رغم ذلك، تحافظ على وعيها الأخلاقي، وتختار الطريق الأصعب، لتُبرهن على أن الحريّة ليست تفلّتًا، بل مسؤولية.

التقييم النهائي
📖 اسم الرواية: ورد
✍️ الكاتبة: جوهرة الرمال
📄 عدد الصفحات: من 174 إلى 176 (حسب دار النشر)
🌟 التقييم: ⭐⭐⭐⭐✩ (4.5 من 5)
🎯 الفئة المناسبة: الراشدون المهتمون بالأدب النفسي والاجتماعي
🧠 الموضوع: فقدان الذاكرة، الهوية، النسوية، الألم والتحول
📌 رواية إنسانية، شجية، وملهمة… تلامس أعماق الروح وتنقلكِ إلى مساحة من التأمل والشفاء.—