بوابة سوريا

قلعة يحمور في طرطوس: محطة لا تُفوّت لعشاق الآثار والطبيعة

قلعة يحمور

هل تساءلت يومًا عن الأسرار التي تخبّئها قلعة يحمور في طرطوس؟ تلك القلعة العريقة التي ما زالت جدرانها تحكي قصصًا من زمن الفرسان والصراعات الكبرى، شامخةً فوق ربوةٍ هادئةٍ تحتضنها الطبيعة السورية بسخاء.

في هذا المقال، سنأخذك في جولة ممتعة ومفصّلة بين أروقة التاريخ، لنتعرف سويًّا على موقع القلعة، وتاريخ بنائها، وأهميتها العسكرية والمعمارية، بالإضافة إلى أبرز ما يميّزها اليوم كواحدة من الكنوز الأثرية في الساحل السوري.

أين تقع قلعة يحمور؟

تقع قلعة يحمور في طرطوس غرب سوريا، بالقرب من بلدة يحمور التي تحمل الاسم نفسه، وتطل على سهل خصب ومشاهد طبيعية خلابة.

وتبعد قلعة يحمور حوالي 8 كم عن مدينة طرطوس، مما يجعل الوصول إليها سهلاً للزوار، كما أنها قريبة من الساحل السوري، مما يضفي عليها طابعًا سياحيًا مميزًا.

تشرف القلعة بإطلالة بانورامية أخّاذة تمتد من السهل الساحلي لطرطوس شمالًا حتى سفوح جبال لبنان جنوبًا، مما أكسبها قيمة عسكرية وتجارية عبر العصور، كما تشكّل القلعة جزءًا من منظومة دفاعية متكاملة، حيث تربطها روابط بصرية مع:مدينة طرطوس شمالًا، قلعة العريمة جنوبًا، برج صافيتا شرقًا، وتحيك الأساطير المحلية حكايات مثيرة عن نفق سري يربطها بمدينة عمريت الأثرية.

كما كانت قلعة يحمور حلقة وصل في شبكة اتصالات تاريخية شملت أرواد البحرية، عمريت الأثرية، برج ميعار الحصين، حصن سليمان التاريخي، وتتمتع القلعة بموقع وسطي مهم على الطريق التجاري القديم الذي كان يربط بين أرواد (المرفأ الرئيس)، عمريت (المدينة الفينيقية)، برج صافيتا (نقطة المراقبة العليا)، حصن سليمان (المعبد الآرامي)، هذا الموقع الفريد جعل من القلعة شاهدة على تدفق الحضارات وتبادل الثقافات عبر آلاف السنين، حيث كانت حلقة وصل حيوية في شبكة الدفاع والتجارة الساحلية.

قلعة يحمور

اقرأ أيضًا: استكشف مصيف رأس البسيط: جوهرة السياحة في الساحل السوري

أصل تسمية قلعة يحمور

يحمل اسم القلعة في طياته روايات متعددة، تتنوع بين التاريخ واللغة والأساطير، حيث يُعتقد أن الاسم يعود إلى الأمير الفينيقي “يغمور” الذي حكم المنطقة في العصور القديمة، ثم تحوّل الاسم مع الزمن إلى “يحمور” بفعل التداول اللغوي.

كما يشير بعض الباحثين إلى أن قلعة يحمور سُميت في العهد البيزنطي بـ”القصر الأحمر” بسبب طبيعة الحجارة الرملية الحمراء التي بُنيت منها، والتي لا تزال ملامحها واضحة حتى اليوم.

واتخذت القلعة اسمها من طبيعة الحياة البرية فيها، والتي تعني “الحمار الوحشي” أو “الغزال البري”، مما قد يشير إلى وفرة هذه الحيوانات في المنطقة قديمًا، أما القلعة نفسها، فقد سُميت تبعًا للمنطقة التي تقع فيها.

وهكذا تظل تسمية القلعة لغزًا تاريخيًا يجمع بين الأسطورة والواقع، حيث تتداخل الروايات لتُضفي على هذا الأثر العريق مزيدًا من الغموض والسحر.

قلعة يحمور

اقرأ أيضًا: دركوش إدلب… سحر الطبيعة على ضفاف العاصي

تاريخ قلعة يحمور في طرطوس

قلعة يحمور في طرطوس ليست مجرد حصن حجري، بل هي شاهد حيّ على تعاقب الحضارات فوق أرضٍ غارقة في القدم، فقبل أن تُشيَّد جدرانها كما نراها اليوم، كان موقعها مأهولًا منذ آلاف السنين.

من العصر الحجري إلى الإمبراطورية البيزنطية

تشير الاكتشافات الأثرية في قرية يحمور إلى أن الإنسان استوطن هذا المكان منذ العصر الحجري القديم، حيث عُثر على أدوات حجرية وآنية فخارية تعود إلى أكثر من 30 ألف عام.

ومع مرور الزمن، وُجدت دلائل على وجود روماني وبيزنطي، من بينها مقابر رومانية ونقش يوناني يُجسد الإله كرونوس، أُعيد استخدامه لاحقًا كجزء من مدخل القلعة.

كما يُرجّح بعض المؤرخين أن الإمبراطور البيزنطي نيكيفوروس فوكاس قام بتحصين هذا الموقع خلال القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي.

الحقبة الصليبية: من إمارة أنطاكية إلى فرسان المستشفى

في مطلع القرن الثاني عشر، وقعت قلعة يحمور في طرطوس تحت السيطرة الصليبية، لتُصبح جزءًا من إمارة أنطاكية، ثم أُلحقت بممتلكات كونت طرابلس عام 1112.

خلال هذه الفترة، بدأت أعمال التحصين الجديّة، فتم بناء السور الخارجي للقلعة، وتلاه إنشاء البرج المركزي الضخم (Donjon) في القرن الثالث عشر.

وفي عام 1177، أُهدِيت القلعة إلى فرسان المستشفى (الهوسبيتاليين) من قبل ريموند الثالث، مقابل تعويض مالي لعائلة مونتوليو.

وقد أطلق الصليبيون على القلعة اسم “القصر الأحمر” (Chastel Rouge)، نسبة إلى لون حجارتها المائل للاحمرار، والذي منحها طابعًا بصريًا فريدًا.

التحرير الإسلامي واستمرار الصراع

في يونيو عام 1188، تمكّن صلاح الدين الأيوبي من اقتحام قلعة يحمور في طرطوس، في إطار حملته لتحرير الساحل السوري من الوجود الصليبي.

ورغم الدمار الجزئي الذي لحق بها، عادت القوات الصليبية لاحقًا لاستعادة السيطرة عليها، وظلّت جزءًا من دفاعات مقاطعة طرابلس لسنوات لاحقة.

المرحلة المملوكية: حسم السيطرة وإعادة البناء

في عام 1289، قاد السلطان المملوكي قلاوون حملة حاسمة على الساحل السوري، وتمكّن من استعادة القلعة نهائيًا من أيدي الصليبيين.

وبعد السيطرة، أُضيف برجان دفاعيان في الزاويتين الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية، وتحولت قلعة يحمور في طرطوس إلى حصن تابع للسلطة المملوكية ومركز إداري وعسكري محلي.

الزلزال، التراجع، والنهضة من جديد

عام 1586، تعرّض الساحل السوري لزلزال قوي ألحق أضرارًا كبيرة بالقلعة، خاصة في الطابق العلوي، ما أدى إلى تراجع وظيفتها الدفاعية.

وفي ظل الحكم العثماني، استُخدمت بعض أجزاء القلعة كمخازن ومأوى للمواشي، ففقدت طابعها العسكري والتحصيني.

لكن مع بدايات القرن العشرين، بدأت ملامح الاهتمام الأثري بقلعة يحمور في طرطوس بالظهور، وتُوّجت هذه الجهود بإعلانها موقعًا أثريًا رسميًا في 14 فبراير 1958.

لاحقًا، أُجري تنقيب أثري مشترك سوري–فرنسي بين عامي 1989 و1996، كشف عن عظام بشرية وأوانٍ حجرية ونقوش يونانية، ما دلّ بوضوح على عمق التسلسل الحضاري الذي مرّ عبر هذا المكان.

يحمور

اقرأ أيضًا: قلعة مصياف

الوصف المعماري لقلعة يحمور في طرطوس

تتربّع قلعة يحمور في طرطوس على ربوة مرتفعة تمنحها إشرافًا واسعًا على محيطها، وقد بُني برجها الرئيسي بارتفاع يتراوح ما بين 15 و20 مترًا، في حين يحتضنها سور خارجي مستطيل الشكل يبلغ طوله ما بين 34 و42 مترًا تقريبًا، ما يوفّر لها تحصينًا مثاليًا من كل الجهات.

وقد شُيّدت جدران قلعة يحمور في طرطوس من حجارة رملية حمراء متينة، وهو ما جعل الصليبيين يطلقون عليها اسم “Chastel Rouge” أو “القصر الأحمر”، نسبة إلى لونها الفريد الذي ميّزها بصريًا عن باقي قلاع الساحل.

البرج المركزي: القلب النابض للقلعة

يُعتبر البرج المركزي، أو ما يُعرف بالدونجون، بمثابة العمود الفقري للقلعة، ويتألف من طابقين رئيسيين:

الطابق السفلي:

يضم هذا المستوى صالة واسعة مدعّمة بعمود مركزي مربع الشكل، يبلغ ارتفاعه قرابة مترين. تنتشر حوله ممرات وسقوف خشبية توفّر التهوية وتوزيع الأحمال، ما يعكس دقة في التصميم الداخلي، وفي الجهة الغربية من الطابق، تمتد قاعة بطول 70 مترًا، يُعتقد أنها كانت مخصصة لإيواء الخيول (إسطبل)، وتضم درجًا يصل إلى الطابق العلوي.

أما الجهة الشرقية، فكانت تحتوي على غرف نوم للجنود، ما يشير إلى أن الطابق صُمم لأداء وظائف خدمية وعسكرية متكاملة.

كما يحتوي الطابق على بئر وقنوات لتجميع مياه الأمطار، وُضعت تحت الأرض، مع فتحات تهوية ومدخل جانبي من الجهة الشمالية، لتأمين المياه في فترات الحصار.

الطابق العلوي

أما الطابق الثاني، فيتميز بصالة فسيحة ترتكز على عمود مركزي ضخم، تنتهي أقواسها بنصف أقواس إسطوانية تصل إلى السقف، وهو تصميم يعكس تطور تقنيات البناء في تلك الفترة.

كما أن مدخل هذا الطابق يتجه غربًا، ويؤدي مباشرة إلى سطح الطابق السفلي، حيث تنتشر أبراج المراقبة وفتحات إطلاق السهام.

التحصينات الدفاعية

تضم قلعة يحمور في طرطوس مجموعة كبيرة من مرامي السهام، موزعة بدقة داخل الأقواس والممرات، بما يتماشى مع الطراز العسكري الصليبي في التحصين والهجوم.

كما أضيف إلى البنية الدفاعية برجان إضافيان في الزاويتين الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية، يتصلان جزئيًا بجسم القلعة الرئيسي، ويشكلان نقاط مراقبة متقدمة.ويُحيط بسور القلعة خندق عميق وقناة مائية دفاعية، صُمّما لتأخير أو صدّ أي تقدم للعدو نحو المداخل.

أمّا أبرز ما يميز البناء في قلعة يحمور في طرطوس هو اعتماد المعماريين على نظام العقود المتصالبة (Cross-ribbed vaults)، حيث تتلاقى القباب عند العمود المركزي، مما يمنح السقف تماسكًا كبيرًا ويُسهّل تحمّل الأحمال الرأسية.

كما شملت البنية مساحات مفتوحة، وسلالم داخلية وخارجية تؤمن التنقل السلس بين الطوابق، وتسهم في تعزيز القدرة الدفاعية عبر توزيع الجنود والعتاد في مختلف الاتجاهات.

قلعة يحمور في طرطوس

اقرأ أيضًا: في حضرة الزهد… دير القديس سمعان العمودي كما لم تعرفه من قبل

قلعة يحمور في طرطوس ليست مجرد حجارة قديمة، بل هي صفحة من كتاب التاريخ السوري، تروي قصص الحضارات والأبطال الذين مروا بها.

إذا كنت من محبي التاريخ أو المغامرة، فلا تفوت زيارة هذه القلعة التي تختزل بين جدرانها عظمة الماضي وسحر الطبيعة.

السابق
استكشف مصيف رأس البسيط: جوهرة السياحة في الساحل السوري
التالي
سعادة الأسرة حين تذبل الزهرة في يد من أحبها